بقدر ما تتهكّم علينا الذاكرة أحياناً، فننسى معها كلّ الأشياء الصغيرة في حياتنا اليوميّة، يأتي الموت من نبعٍ مجهول كسُلطةٍ قاهرة فيُضاعف من لوعة الغياب، سيما حين يتعلّق الأمر برجال صنعوا التاريخ الفنّي للبلد وراكموا من الخيبات والتجارب المضنية، ما جعلهم طيلة عقودٍ من الزمن مَنارة ساطعة في وجه التقليد والزيف، ثمّ لاحقاً في وجه التفاهة المُقنّنة التي بات يفرضها الزمن المعاصر من خلال وسائل السوشيال ميديا، بما جعلها نمط عيش مُشتركاً داخل المجال الفنّي الذي ابتذلته أسوأ ابتذال. انطفأ في وقت مُتأخّر من مساء الأحد المُنصرم، الموسيقار والمُلحّن المصري محمّد سلطان (1937-2022)، بعدما توقّف قلبه عن الخفقان، رغم أنّ الساحة المصرية لم تنتبه إلى هذا الغياب المُؤلم، بحيث ظلّت مهرجاناتها مقامة هنا وهناك، مُتناسية صاحب «أحلى طريق في دنيتي» وزوج المطربة فايزة أحمد (1930-1983) الذي لحّن عدداً كبيراً من الأغاني في العالم العربي من مختلف الأجيال الغنائية والحساسيات الموسيقيّة. صار صاحب «غريب يا زمان» و«قاعد معايا» أحد أبرز المُلحّنين المصريين خلال النصف الثاني من القرن العشرين. هذا الأمر، جعله باكراً يُعدّ رمزاً من رموز الطرب المصري وإنْ كان سلطان يعتبر أنّ زوجته فايزة كانت سبباً في شهرته، انطلاقاً من عدد الأغاني التي لحّنها لها كـ «رسالة إلى امرأة» و«واخد حبيبي» فشكّلا معاً ثنائياً فنياً لعبا دوراً كبيراً في تحديث الطرب الغنائي، بعدما قدّما أكثر من 200 أغنية للساحة الفنّية المصرية.

لم يخف امتعاضه من الأغنية الترفيهية التي تجعل الأصوات الهشّة تختفي وراء الموسيقى الإلكترونية الصاخبة

على هذا الأساس، عُرف محمد سلطان، مُلحّناً أكثر منه كونه عازفاً، ورغم أنّه درس الحقوق في الإسكندرية عام 1960 وبدأ حياته كمُمثّل، إلا أنّ الموسيقى طبعت اسمه كواحد من المُلحّنين المؤثّرين في خصوصية الألبومات الغنائية المصرية خلال سنوات الستينيات والسبعينيات. حرّر سلطان النغم من بُعده الكلاسيكي وجعل النصّ أكثر قُدرة على التوليف مع أنماطٍ لحنية مُتعدّدة، مازجاً إيّاه بنمطٍ تعبيري رومانسي أصبح شائعاً في الأغنية المصرية الحديثة. هذا النّمط الرومانسي حقّق معه شهرة كبيرةً ثار من خلالها على الأعراف الموسيقيّة المُتوارثة في البلاد العربيّة، بعدما جعل الأسلوب الرومانسي عنوان مسيرته الفنّية ومُختبراً تجريبياً لتأليف القصائد وتلحينها. لذلك، فإنّ رومانسية سلطان، ليست مجرّد نزوة نفسية عابرة أو ترفاً اجتماعياً، بقدر ما تجذّرت في سيرته كأسلوب فنّي قويّ، نابع بدرجة أساس من التحوّلات الجماليّة التي ألمّت بالأغنية المصرية في ما سُمّي بـ «الرومانسية الجديدة» داخل الأغنية المصرية.
يُطالعنا محمّد سلطان في أفلام من قبيل «يوم بلا غد» (1962) لهنري بركات و«الناصر صلاح الدين» (1963) للمخرج يوسف شاهين و«عائلة زيزي» (1963) لفطين عبد الوهاب، باعتباره مُمثّلاً مُخضرماً. وإنْ كانت فيلموغرافيته على مُستوى الكمّ لا تتعدّى 11 فيلماً مصرياً، فذلك راجعٌ بشكلٍ أساس إلى أنّ التمثيل لم يكُن بالأمر الهامّ بالنسبة إليه، طالما المصادفة قادته إلى المجال السينمائي. غير أنّ للشاشة الكبيرة سحراً يصعب فهمه أو الانعتاق من سُلطته. يقول: «التمثيل فن تعبيري يتطلّب تقمّصاً وانفعالاً وخيالاً وغيرها من القوى الوجدانية. كان لديّ ميلٌ داخلي لذلك بحكم تكويني. ولكنّ المصادفة كانت حاضرة في نقطة البداية. فوالدي كان يمتلك مدرسة للفروسية اشتراها من مدرّب خيول فرنسي شهير صفى أعماله في الإسكندرية وعاد إلى بلده. وفي أحد الأيام أثناء قفزي بالحصان، شاهدني المُخرج يوسف شاهين وعرّفني بنفسه وعرض عليّ العمل معه في فيلم «الناصر صلاح الدين»، وأخبرني أن تصويره سيستغرق عامين وأنني إذا صبرت وقاومت ورفضت العروض السينمائية، التي ستعرض عليّ، فسيتولّى رعايتي سينمائياً. لكن أثناء التصوير، عرض علي تمثيل فيلم «يوم بلا غد» أمام فريد الأطرش، وفي منزله تعرفت إلى فايزة أحمد ثم تزوجنا عام 1963».
بعد توقّف سلطان عن التمثيل وعدم تلبية دعوات المُخرجين المصريين للانضمام إلى الطاقم الفنّي لبعض الأفلام، كرّس قسطاً كبيراً من تجربته في تلحين نماذج كثيرةٍ من الموسيقى التصويرية مثل «الحلال والحرام» (1985)، و«ليه يا دنيا» (1994)، و«سمارة الأمير» (1992)، و«همس الجواري» (1992)، و«عصر الحب» (1986)، و«رحلة الشقاء والحبّ» (1982) وسواها من ألحان الموسيقى التصويرية الرومانسية التي ظلّلت سيرته الإبداعية داخل المجال الغنائي في العالم العربيّ. ما يُؤكّد سطوة الأسلوب اللحني الذي انضوى تحته محمّد سُلطان وجعله عنوان حياته اليوميّة، بحكم ما كان يعرفه المجتمع آنذاك من تمظهرات رومانسية بدت واضحة من خلال نماذج كثيرةٍ من السينما الغنائية، التي بلورته ودفعته صوب حداثة الصورة على اختلاف أنواعها وألوانها.

بعد زواج سلطان من المطربة السورية المصرية فايزة أحمد، تغيّرت حياته ككلّ

لم يُحقّق نجم «الباحثة عن الحب» (1964) لأحمد ضياء الدين و«العتبة قزاز» (1969) للمخرج نيازي مصطفى، أيّ جديدٍ يُذكر على مُستوى الأداء، فكان مروره سريعاً على الشاشة الكبيرة، صوب عالم الغناء والموسيقى من خلال عنصر اللحن الذي قاده إلى التلحين لأهمّ المطربين العرب أمثال هاني شاكر، وسميرة سعيد، وميادة الحناوي، وأصالة نصري، وليلى مراد، وسعاد محمّد، وماهر العطّار، وسوزان عطية وغيرهم. لكنْ بعد زواج سلطان من المطربة السورية المصرية فايزة أحمد، تغيّرت حياته ككلّ. فقد ساعده الحبّ على اكتشاف ذاته بعدما أضحى اسماً في سماء التلحين، بسبب قُدرةٍ متميّزة على تجديد اللحن بطريقة حديثة تُكسّر القواعد البلاغية الصارمة، حيث يجعل النصّ خاضعاً لإملاءات الجسد ورغبته في التحرّر والتعبير من خلال فعل اللحن. إنّه لا يُقيد نفسه بمعايير نصّية أو موسيقيّة، بل يترك اللحن ينساب هادئاً بشكلٍ رومانسيّ من ذاته، كأنّه شلال من أحاسيس مُذهلة مُنسابة عبر اللاوعي التي يتمازج فيها الواقعي بالحسّي والاستيهامي بالخيالي. والحقيقة أنّ هذا الأسلوب في التلحين، لم يكُن إلا مجرّد مرآة لما كان ينطبع به المختبر الموسيقي المشرقي لحظة سيطرة التيّار الرومانسي على الأغنية المشرقية ودخول بعض الآلات الغربيّة التي جدّدت مسار هذه الأغنية وأخرجتها من النّمط الكلاسيكي المحض، بعدما فتحت الآلات الحديثة فضاءً جديداً للتعبير بما يتماشى مع طبيعة تحوّلات مصر الحديثة وأذن المُستمع التي غدت تحنّ إلى لحنٍ جديدٍ أكثر أصالة والتحاماً بحياتها الاجتماعية اليوميّة داخل الأسواق والمقاهي والحانات والحفلات. وبقدر تجدّد الأغنية المصرية عبر عنصر الآلة الغربيّة، بدت في لحظةٍ ما كأنّها تنسخ النموذج الموسيقي الغربيّ.
لحّن لعدد كبير من الفنانين العرب من مختلف الأجيال والحساسيات الموسيقيّة

لذلك حاول الراحل محمّد سلطان في مُجمل ألحانه الحرص الشديد على تفسّخ اللحن واغتراب نظامه الشكلي حتّى لا يتمازج مع النّمط الغربي في التأليف والتدقيق في الجُمل اللحنية بصورةٍ سليمة وإخضاعها لسُلطة الجسد قبل الفكر، ثمّ العمل على توليفها مع المزاج العامّ للمُجتمع، بما يُحقّق لها أصالتها النوعية وهويّتها الموسيقيّة ذات العلاقة بالأغنية العربيّة.
ليس رحيل محمّد سلطان، هو ما يُثير الحزن والألم في مرابع الذات، بل عدم انتباه الساحة المصرية لغياب هذا الرجل، الذي شغل حياة الناس، وكان وراء اكتشاف العديد من المواهب الفنّية، التي توصف اليوم بأقطاب وأعلام وعلامات الغناء العربيّ المعاصر. لذلك، لم يكُن سلطان وهو قيد الحياة، يخفي امتعاضه من الأغنية المصرية الترفيهية التي تُبلّد العقول وتجعل الكثير من الأصوات الهشّة غير المُقنعة في أدائها الغنائي، تختفي وراء الموسيقى الإلكترونية الصاخبة الخاضعة للإيقاع المُندفع، بخاصّة حين يتعلق الأمر بالمُلحّنين الجدد الذين طالما وجّه لهم نقداً لاذعاً على أساس عدم معرفتهم بالقواعد الموسيقيّة وإخضاعها لمنطق الارتجال، بما لا يُعطي للحن قيمته داخل الأغنية، فتبدو الموسيقى كأنّها تلتهم اللحن، ما يخلق نشازاً قوياً خلال الاستماع إلى الأغنية، إذ تضعف سُلطة المُلحّن وراء جاذبية الإيقاع وحدّة الصوت.