يقول كاتب نرجسي على الفايسبوك، مسرح الخطباء الهامشيين، وملعب الباحثين عن مقام بلا تكلف عناء الصعود، إنه يحلو له وصف الفنانة فيروز بالـ«راحلة». والحال أنّه لا يختلف اثنان في سماجة الوصف، وما يضمره من كراهية نافرة. الراحلون هم الموتى. وإن كان «الرحيل» مفردة تستخدم لغوياً للتقليل من أثر الغياب، فإن اطلاقه على الأحياء بمثابة الدعوة إلى قتلهم. يجب أن لا نغفل هنا أن الموقع الالكتروني، يتيح مساحة وافرة من العبثية، تسهّل قذف الموقف، وتجعله في مصاف السلعة المعروضة للعموم، مقابل اعجاب غالباً ما يكون رخيصاً، وينبع من غرائز المعجبين. ذلك رغم أن الفراغ الثقافي في بلاد منقسمة بين «يا زينب» و«داعش»، يسمح لمجموعة وافرة من الهامشيين أن تصطاد غرائز الآخرين. بين «الراحلة» فيروز و«الدائمة» فيروز، يختار محبو الفرح الثانية. وإن كانت تحب حسن نصر الله، وهذا الذي جعلها عرضة لهجمة دعائيّة، فهذا شأنها لا شأن دعاة المواقف الرخيصة. أليست هذه هي الحريّة؟ بمعزل عن اللعبة الدنيئة، الغوبلزيّة للغاية التي تحاول وضع نصر الله في مصاف «القاعدة»، من دون اثبات أي شبهٍ في السلوك أو العقيدة بين الاثنين، فإن السجال الحقيقي على الموقع العجيب يتمحور حول فيروز لا حول نصر الله. انطلق كثيرون من رافضي موقف فيروز من نقطة جوهريّة، مفادها أنّ نصر الله لا يحب فيروز ولا يحب الفنون. ويبدو هؤلاء عقلانيين في استفساراتهم وأسئلتهم إلى الفنانة اللبنانيّة التي تتمتع بميزة رائعة، وهي تجاهل هذه السجالات دائماً. من حق الجميع أن لا يحب نصر الله ومن حق الجميع أن يحبّه أيضاً. وينسحب الأمر على فيروز نفسها. لكن، بطبيعة الحال، لن تبقى فيروز بلا نوم، لأن مدوناً تافهاً، أغدق الفايسبوك بانزعاجاته من موقف الفنانة اللبنانيّة ومن المواقف المشابهة. ليس انتقاصاً من قيمة «المدون» القول إنّه «مدون». ولا نقول هنا إن «التدوين» تفاهة، بل ثمة مدونون تفّه، كما هي حال الجميع. هذا (المدون) يحظى بأهميّة، سببها المساحة التي يوفرها العالم الافتراضي ضدّ الأصوات المحبوسة، تحديداً في العالم العربي. والوقوف ضدّ رأيهِ، ليس وقوفاً ضدّ الرأي بحد ذاتهِ، إنما دعوة لفهم الانتقال الذي يمارسه العُصابيون، من سجن الأنظمة العربيّة إلى سجن «الربيع العربي»، على قاعدة «الجمهور عايز كده».
ما لم تقله فيروز، إنها ضدّ «الربيع العربي» بصورته الحالية. لا الغنوشي بستاني وديع، ولا اسلاميّو ليبيا يوزعون الورود على الناس، ولا السيد الرئيس محمد مرسي، أو الجنرال السيسي، يناشدان واقعيّة جديدة. لا «أنبياء» في هذا الربيع، ولا أنبياء على الفايسبوك. فيروز ضدّ هذا النوع من «الربيع» الذي أخرج «النصرة» و«لواء الاسلام» الذي اعتقل الناشطة رزان زيتونة قبل أسبوع. إنها تنتمي إلى ربيع آخر، منذ 1955، حين غنت: «الربيع الربيع زار هذه الديار/ وكساها اخضراراً/ فاضحكي يا ربوع الشتاء». وطبعاً، الجميع مطالب باعتذار عن سوء فهمه لهذا «الربيع» السيئ، ولاستغلاله معنى الحريّة، لاصدار دعوات لاغتيال فيروز. ولكننا هنا نتحدث عن عامل مفقود في المشهد، وهو «الأخلاق». يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، في كتاب «الوجوديّة»، إن مفهوم الأخلاق «يتسم بمشروعيّة سيكولوجيّة تهدف إلى الهيمنة على النزعات المنحرفة». وهي نزعات، إذا تسلحت بايديولوجيا مبطنة، كما هي الحال الآن، فإن انحرافها سيغدو همجياً إلى حد وصف فيروز بالـ«راحلة». وتجنباً للغرق في سجال لسنا بحاجة إليه عن أخلاقيّة فيروز، والمواقف الغرائزيّة المضادة، نحتاج إلى عقود أخرى. حين وقف الكاتب الفرنسي ألبير كامو في وجه الغولاغ، كان عرضة لاتهامات شتى أبرزها تسويغه للاستعمار. وبيّنت الأحداث لاحقاً أن الكاتب الفرنسي كان محقاً في وقوفه ضدّ القمع الاشتراكي الذي ينخر عظام الشعوب متسلحاً بغول الشعارات. احتاج خصوم كامو إلى وقتٍ طويل لتفسير خروجه المبكر من معسكر الشعارات. وقد تبدو المقارنة مربكة هنا، إلا أن الحديث عن «حريّة» فائضة عن الواقع، و«ثورة» داعشيّة يروق الكثيرين الآن، وهذا ما لن ينجر إليه أحد غيرهم. قد يكون التذكير ببعض السوابق التاريخيّة مفيداً.
خلال فترة حكمهم البغيض، كان النازيّون يمنعون موسيقى الجاز والبلوز في حانات برلين، لأنها من ثقافة «السود». انتصر لويس ارمسترونغ لاحقاً، وأصبح أول رجل من أصول افريقيّة يغني في أماكن «البيض». انتصر الجاز على الصلبان المعقوفة. وعلى الأرجح، ستبقى تلك الحناجر الناصعة تصدح في قلوب كثيرين. إنها حتميّة تاريخيّة (والمصطلح هنا استعارة من ماركسيّة سبقها العالم هي الأخرى): ما لم يستطع فرضه نازيو أواسط القرن البائد فرضه بالحديد ودعاية الصلبان المعقوفة، لن تستطيع «داعش»، ممثلة نازيي عصرنا، فرضه على العالم، ببضعة «ستاتوتسات» على الفايسبوك، أو حتى بأشباه المثقفين الذين اختاروا مشروعاً خاسراً يحاكي النازيّة ويستلهم كراهية الغناء والفرح منها. الاختلاف في السياسة جائز، وفي العقائد المتحجرة في منطقتنا على تنوعها جائز أيضاً. لكن سينتصر صوت فيروز على «داعش» ومن معها. هذه حتمية تاريخيّة.

يمكنك متابعة أحمد محسن عبر تويتر | @Ahmad_Mohsen




صور وأغنيات في وجه البرابرة

في موازاة الهجمات التي شُنّت على فيروز، رأى محبّوها في نشر صورها وأغنياتها أبلغ وسيلة للرد. عبر مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت صور خاصة لها ولأغلفة ألبوماتها، وأخرى كتب عليها عنوان أغنيتها «عندي ثقة فيك» (كلمات وألحان زياد الرحباني). كما حملت إحداها تعليقاً مستوحى من أغنيتها «شايف البحر شو كبير»: «كبر البحر وبعد السما... بحبك». ومن بين الصور التي تناقلها المغردون والفايسبوكيون واحدة للغرافيتي الذي رسمه الفنان اللبناني شاب يزن حلواني لـ «السيدة» على أحد جدران الجميزة (بيروت). رافقت ذلك تعليقات كثيرة أكدت على حق فيروز في حب من تشاء.