16 فيلماً بالتمام والكمال، جرى صنعها عن روايات نجيب محفوظ بين 1960، الذي صنع فيه أول فيلم، حتى 1975 الذي صنع فيه فيلم «الكرنك»، آخر عمل سينمائي مقتبس عن محفوظ يدور في عهد عبد الناصر. وهي الفترة الأكثر غزارة في تاريخ الاقتباس عن محفوظ، وأيضاً في السرعة التي يتم بها الاقتباس، حيث لا يفصل بين صدور الرواية وتحويلها لفيلم سوى حفنة أعوام بل شهور.
«ثرثرة» الفلاسفة المدمنين

نشرت رواية «ثرثرة فوق النيل» عام 1966، قبل أشهر من هزيمة 1967، وهي تتوسط مرحلة من مسيرة محفوظ الأدبية بدأت عام 1961 برواية «اللص والكلاب» وتضم «السمان والخريف»، «الطريق»، «الشحاذ» و«ميرامار»، التي يمكن أن نسميها مرحلة «نقد الثورة» أو نقد سلبيات النظام الناصري.
ببصيرته النافذة وقدرته المدهشة على التحايل الفني على كل أشكال الرقابة، مرر نجيب محفوظ نقده لسلبيات هذه المرحلة من خلال تركيزه على شخصيات رئيسية تعاني الاحباط، الغضب، الشك والعبث. شخصيات محاطة غالباً بانتهازيين، لا مبالين، فاسدين ومنافقين، ومن الناحية الثانية بشخص واحد على الأقل نبيل ومثالي ومؤمن مخلص بالثورة والاشتراكية.
في «ثرثرة فوق النيل»، تحتمي الشخصيات، والسرد المحفوظي الناطق بألسنتها وأفكارها، بالحشيش والفلسفة لتمرير نقدها للبيروقراطية والفساد الحكومي والاشتراكية الكاذبة والصحافة المرتشية، وقبل ذلك للصورة البراقة التي يروجها الخطاب الرسمي وتخفي وراءها نظاماً متهالكاً آيلاً للسقوط.
استغل «ثرثرة فوق النيل» الرواية للنيل من نظام عبد الناصر وتشويهه


يغلف محفوظ كلماته بالنكات و«القفشات» الناجمة عن تأثير المخدرات، كما يغلفها بعشرات العبارات والاقتباسات الفلسفية والإشارات التاريخية. لكن خلف هذه «الهلوسات» الكوميدية والعبارات الغامضة، يرسم صورة متشائمة مخيفة لمصر عشية يونيو 1967.
إنّ محفوظ الذي أعطى للمكان الشعبي المصري مركز الصدارة في أعماله «الواقعية» مثل «القاهرة الجديدة»، «زقاق المدق»، «خان الخليلي».. يختار هنا عوامة تطفو فوق سطح النيل لا أساس ولا جذور لها. فمصر منتصف الستينيات التي كانت سادرة في أحلام النهضة والانتصار العسكري، دون أن تكون هناك قاعدة علمية أو اقتصادية أو إدارية تتحمل ثقل هذه الأحلام، تبدو بالنسبة لمحفوظ كبيت خشبي بلا أساس يطفو على سطح الماء. تدور «ثرثرة فوق النيل» حول «شلة» من البورجوازيين المتعلمين الذين يتجمعون بشكل شبه يومي في إحدى العوامات لتعاطي الحشيش وممارسة الجنس وتبادل الثرثرة اللاهية: الموظف الأربعيني أنيس، الريفي الأصل، المقيم في العوامة مقابل رعاية المكان، الممثل المعروف رجب القاضي، صاحب العوامة وزير النساء، وعشيقته السابقة سنية، التي تخون زوجها، وعشيقته الحالية سناء، الطالبة الجامعية، وليلى الموظفة التي تعاشر الرجال لتحقيق مطامعها المادية، والصحافي الفني المعروف علي السيد، والأديب خالد عزوز، والمحامي مصطفى، والموظف أحمد، وتنضم إليهم الصحافية الشابة سمارة بحثاً عن فكرة لكتابة مسرحية.
لا أحداث كثيرة في «ثرثرة فوق النيل» سوى رصد الغليان التدريجي الناتج عن تشابك وتعقد العلاقات بين أفراد الشلة، خاصة بعد انضمام سمارة إليهم. لكن المرة الوحيدة التي يخرجون فيها لمشاهدة بعض الآثار الفرعونية، تنتهي بحادث سيارة يؤدي إلى موت أحد المارة، ويهربون تاركين الجثة في عرض الطريق، ثم يرفت أنيس من وظيفته بسبب إدمانه واهماله، ويتشاجرون معاً عندما تطالبهم سمارة بالذهاب للاعتراف بالجريمة، ولكن الرواية تنتهي عند هذا الحد، من دون أي فعل حقيقي.
«ثرثرة فوق النيل» رواية استثنائية في جرأتها وأسلوب سردها الذي ينتمي إلى ما يعرف بتيار الوعي، الذي بدأ محفوظ يستخدمه مع «اللص والكلاب»، ويعتمد على غياب صوت الراوي المحايد وسرد الموضوع من وجهة نظر الشخصية الرئيسية، أو وجهات نظر عدة شخصيات متعارضة.
للأسف، فقد فيلم «ثرثرة فوق النيل» (1971) أهم مميزات الرواية على يد المخرج حسين كمال والسيناريست ممدوح الليثي اللذين صنعا فيلماً فجاً مسطحاً يخلو من أي رهافة حس وعمق فكري تحويهما الرواية.


مع ذلك، بعيداً عن المقارنة الظالمة بين نصوص محفوظ والسينما المصرية المكبلة بشروط الوسيط وشروط السوق، فإن «ثرثرة فوق النيل» فيلم ناجح جماهيرياً، جيد الصنع بمقاييس الصناعة، يتميز بفريق ممثليه وممثلاته، من عماد حمدي في أدائه الرائع لدور أنيس أفندي، إلى أحمد رمزي، وعادل أدهم، وأحمد توفيق، وصلاح نظمي، والفاتنات ميرفت أمين، سهير رمزي، نعيمة مختار وماجدة الخطيب. يحتوي على الكثير من المشهيات التجارية، من نكات لفظية وبصرية صاخبة، ومساحات لا بأس بها من الأجساد العارية، والقبلات الساخنة، ومن هجاء سياسي لبيروقراطية وفساد الحكومة وارتفاع الأسعار.
كتبت «ثرثرة...» قبل هزيمة يونيو، ويقال إنّها تسببت في غضب المشير عبد الحكيم عامر على نجيب محفوظ، ربما لأنها تشير إلى العوامات وحفلات المخدرات والجنس التي يقال بأن بعض رجال الدولة كانوا غارقين فيها. وقد استغل الفيلم الرواية أسوأ استغلال للنيل من نظام عبد الناصر وتشويهه، وكان بمثابة الطلقة الأولى في سلسلة من الأفلام المضادة لـ «ثورة يوليو» عقب موت عبد الناصر. وحتى اليوم، نجد من يستغل الرواية والفيلم لمهاجمة «ثورة يوليو» والجيش المصري عموماً.
صناع الفيلم حولوا الهم «الوجودي» ودودة «العبث الفلسفي» التي تنخر في أرواح الشخصيات، والتي سادت عالم الستينيات كله ـــ في الرواية إشارات إلى حرب فيتنام والحرب الباردة والسلام الهش، وتاريخ البشرية المخزي ـــ إلى مشهيات كوميدية وجنسية تليق بالانفجار «الهيبي» للسبعينيات من دون الأفكار التي تؤسس له. نظرة على المقاطع المحبذة من الفيلم على يوتيوب، تبين أن «جمهور» اليوم أيضاً لم ير في الفيلم سوى المشاهد العارية والنكت اللفظية من نوعية «رجب حوش صاحبك» التي تحولت إلى عنوان أغنية لهيفا وهبي!
ولأن صناع الفيلم كانوا يشعرون على ما يبدو بالخواء الفكري والطابع الانتهازي لعملهم، فقد أجروا أيضاً بعض التغييرات في الرواية ليضفوا على عملهم أبعاداً «أخلاقية» و«وطنية» وعظية. هكذا، جعلوا من حارس العوامة رمزاً للدين، ومن سمارة رمزاً للالتزام والجدية، وحتى أنيس يتغير بنسبة 180 درجة في النهاية، ويخرج الثلاثة من العوامة سالمين، بينما يغرق الباقون جميعاً عقاباً لهم على انحلالهم، بعد أن يقوم الحارس بفك سلاسل العوامة المربوطة على الشاطئ!

«السكرية»... الأب المكسور والأم الغائبة

«السكرية» هي الجزء الثالث والأخير من ثلاثية نجيب محفوظ التي تتناول تاريخ عائلة متوسطة في القاهرة خلال النصف الأول من القرن العشرين حتى 1945. وقد تصدى مخرج الميلودراما الشهير حسن الامام لتحويلها سينمائياً في أعمال أثارت الجدل حول تشويهها للأصل، واختزالها للعمل الأدبي إلى «اسكتشات» راقصة كوميدية عبر تركيزه على حياة بائعات الهوى وجلسات المخدرات. لكن هذه الأفلام حققت نجاحاً شعبياً وشهرة لمحفوظ وسط العامة وباتت محفورة في أذهان الجماهير، ورسمت صورة ذهنية عن الحياة في مصر خلال تلك الفترة اجتماعياً وسياسياً. حتى إن المشاهد التي تعرض عادة كلقطات أرشيفية لثورة 1919 مأخوذة عن هذه الأفلام.
ومن المتعارف عليه أن فيلم «السكرية» (1973) أنضج الأفلام الثلاثة وأكثرها التزاماً بالأصل الأدبي، وأكثرها تعبيراً عن الروح الحزينة التي يتأمل بها محفوظ جريان الزمن وتعاقب الفصول والأجيال.
على عكس الجزءين الأول والثاني اللذين كتبهما يوسف جوهر، حوّل ممدوح الليثي «السكرية» إلى سيناريو، حيث حاول أن يحافظ على النص، خاصة في الحوار. لكنه أجرى بعض الاختصارات في الأحداث والشخصيات حتى تواكب الوسيط السينمائي، كان من أخطرها وأكثرها تأثيراً إلغاء دور الأم أمينة بسبب وفاة الممثلة آمال زايد التي لعبت الشخصية في الجزءين الأول والثاني، والاستعاضة عن ذلك بتعليق صوتي يشرح ما آلت إليه حياتها حتى وفاتها. وكان من نتيجة هذا التغيير أنّ واحداً من أهم التحولات الدرامية في الرواية لا يظهر في الفيلم بشكل واضح، وهو انقلاب الأدوار الذي يتم بين الأم والأب السيد أحمد عبد الجواد. في «بين القصرين» تخرج أمينة من البيت مرة واحدة بدون الحصول على إذن زوجها لزيارة مسجد الحسين فتتعرض للعقاب الشديد. لكن الطاغية المهيمن الذي لا يكف عن اللهو ومعاشرة النساء، يتحول في نهاية حياته إلى رجل ضعيف مريض ملازم للبيت بينما تخرج أمينة من المنزل يومياً لزيارة المساجد والأضرحة كما تشاء.
صورة الأب المهزوم لا تبارح الأفلام التي صنعت بعد هزيمة يونيو ورحيل عبد الناصر. تتردد في أعمال كثيرة بشهرة «أبي فوق الشجرة»، و«ضاع العمر يا ولدي» وغيرهما من أعمال السبعينيات، لكنها في الثلاثية أكثر تعبيراً عن التغيير الثقافي الذي أصاب بنية ونواة المجتمع عقب هزيمة الأب، وضياع الأجيال الجديدة من النخبة المثقفة والمتعلمة الحائرة بين التزمت الديني والإلحاد كما نرى في شخصيات الابن كمال عبد الجواد والحفيدين اللذين ينتمي أحدهما إلى الإخوان المسلمين والثاني إلى الشيوعيين، ويلقى بالاثنين في زنزانة واحدة على يد سلطة لا تعترف بالتعددية أو الاختلاف.
ثلاثية محفوظ ترصد مجتمعاً في حالة صيروة دائمة، وتغيير لا يرحم، وعدم يفتح فاهه الواسع ليلتهم الجميع في نهاية المطاف، وأجيال تتعاقب محملة بالتمرد والثورة والعشق، ومجتمع يراوح مكانه بين التطور والرجوع إلى الوراء. ومع أن أحداث «السكرية» تنتهي منتصف الأربعينيات، إلا أن الفيلم المصنوع في السبعينيات يحمل أيضاً روح هذه السنوات قبل انتصار السادس من أكتوبر و«كامب ديفيد» والانفتاح الاقتصادي، التي عصفت بالمجتمع المصري وألقت به إلى فضاء وفوضى ورجعية الثمانينيات.
لا عجب أن يثير «السكرية» ذلك الحنين إلى الأربعينيات والسبعينيات معاً، ولا عجب أن يحظى «ثرثرة فوق النيل» بكل هذا الحضور، بما يثيره من حنين وحسد لسنوات السبعينيات، ومن قلق ويأس لم يزل يضرب جيل اليوم كما كان يضرب جيل الأمس دون هوادة.

* «السكرية» (15 مارس) و«ثرثرة فوق النيل» (22 مارس): «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا ـــ س:19:00) ـــ للاستعلام:01/566550