القاهرة | ستة أفلام مصرية في «أيام بيروت...» تنتمي كلها إلى الهامش السينمائي المصري الذي يتسم بالجدية والفنية والروح الشبابية، ولو كان أقل شعبية ونجاحاً تجارياً من السينما الروائية السائدة بنجومها وموضوعاتها البالية. أول هذه الأفلام هو «يوم الدين» (العرض البيروتي 6 نيسان في متروبوليس بناء على دعوة ــ ) لمخرجه ومؤلفه أبو بكر شوقي. عمل طازج ونادر من حيث موضوعه وشخصياته والإنسانية. ببساطة هو تطوير لعمل وثائقي قصير اسمه «المستعمرة» كان مشروع تخرج شوقي منذ عشر سنوات. يصوّر هامشاً منسياً ومنبوذاً لا يريد أحد أن يراه، هو مستعمرة مرضى الجذام التي تذكرنا بسجون العصور الوسطى، حيث يذهب المرء ويُنسى إلى الأبد. يرتكز «يوم الدين» إلى شخصيات حقيقية (معدلة روائياً) على طريقة «أفلام الطريق» أو الرحلة. من خلال قصة «راضي» الذي يترك المستعمرة بعد 30 عاماً ليبحث عن عائلته، يستعرض الفيلم مظاهر الحياة على شاطئ النيل من القاهرة إلى أقصى الجنوب. ويتبيّن أن معظم هذه المظاهر هو ترديد لـ«ثيمة» الاضطهاد والتهميش والنبذ التي طالما حفل بها تاريخ البشرية. ورغم الملاحظات التي يمكن أخذها على «يوم الدين» في ما يتعلق ببنائه المصطنع والمباشرة التي يتسم بها بعض مشاهده وحواراته، إلا أن المشاهد لا يملك سوى أن يقع أسيراً لشخصياته وحيواتها المدهشة.الفيلم الثاني هو «ليل خارجي» لأحمد عبد الله السيد، الذي يعدّ من أبرز صناع السينما المستقلة وأغزرهم إنتاجاً. يبحث عبد الله دائماً عن أفكار فنية ومعادلات إنتاجية مختلفة تمزج بين الروائي والوثائقي والتجريبي والشعبي. في «ليل خارجي» (31 آذار ـــ س: 19:30 ــ «متروبوليس»)، يبدو أحمد عبد الله أكثر تقارباً وتصالحاً مع السينما المصرية «الشعبية» حيث يعتمد على قصة وخط درامي وشخصيات تقليدية، مع لمسات فنية خاصة. يتناول الفيلم يوماً وليلة في حياة مخرج شاب يصنع فيلماً مستقلاً تجمعه مغامرة ليلية طويلة بسائق تاكسي وبائعة هوى. المخرج الذي يمثّل معادلاً موضوعياً، أو «أنا بديلة» Alter ego لأحمد عبد الله نفسه، يبدأ اليوم على خصام مع السائد والشعبي وينتهي متصالحاً معه، مثّل الفيلم نفسه الذي يبدأ بالحديث عن شاب ريفي يموت غرقاً أثناء محاولته الهجرة غير الشرعية، وعن أديب شاب يسجن بسبب رواية كتبها، لينتهي بمشروع زواج بين السائق وبائعة الهوى و«خناقة» في حارة شعبية. وعبد الله الذي يجيد إدارة ممثليه، ينجح هنا في تشكيل فريق متجانس يتكون من كريم قاسم ومنى هلا وشريف دسوقي، إلى جانب أحمد مجدي وبسمة وأحمد مالك وممثلين معروفين في أدوار شرفية قصيرة. بشكل عام، يتخلص عبد الله من المشاهد التأملية البطيئة لصالح إيقاع أكثر سرعة وحيوية ودرامية، لكن تظل المشكلة في السيناريو التقليدي وبعض المواقف والحوارات المستهلكة.
تُعرض أيضاً ضمن المهرجان ثلاثة أفلام وثائقية حديثة هي «الحلم البعيد» (إخراج مروان عمارة ويوهانا دومكي) و«أمل» (إخراج محمد صيام)، و«يأتون من بعيد» (إخراج أمل رمسيس). يثير
«الحلم البعيد» (30 آذار ـــ 19:30 ـ متروبوليس) أسئلة حول حدود التداخل بين الوثائقي والروائي. من الغريب مثلاً، تصنيفه كوثائقي ليس فقط من قبل صانعيه، لكن من قبل مهرجانات دولية كبرى. منذ اللحظة الأولى التي يبدأ فيها الفيلم بمشهد لمدينة شرم الشيخ الجرداء عند الفجر وطائرة تحلق في السماء تدخل «الكادر»، تتبيّن الطبيعة الاستعارية للفيلم الذي يدور حول شباب محاصرين بين مدينة سياحية لم يعد يذهب إليها السياح وحلم الهجرة. منذ المشهد الحواري الأول بين فتاة ملتحقة حديثاً بالعمل وفتاة تنظيف غرف، تتبيّن الطبيعة التمثيلية للعمل، الذي يتكون من مشاهد وحوارات مكتوبة ومتفق عليها مؤداة باصطناع ساذج غالباً. «الحلم البعيد» قد يكون فيلماً فنياً جيداً لكنه بالتأكيد ليس وثائقياً. «أمل» (2 نيسان ـ س: 21:30 ـ متروبوليس) من ناحية أخرى هو فيلم وثائقي بامتياز، وتحديداً النوع المسمى بالوثائقي الروائي Feature Documentary، الذي يستخدم بعض عناصر السينما الروائية لكنه يحافظ على النظرة الموضوعية والمشاهد الطبيعية للشخصيات في حياتها اليومية من دون تدخل يلحظ من قبل صناع العمل. على مدار ست سنوات، يتتبع المخرج محمد صيام حياة فتاة صغيرة انضمت إلى ثورة 25 يناير وهي في الـ 14 من عمرها حتى تجاوزت العشرين. من خلال مشاهد لحياتها في قلب الأحداث وأخرى تتحدث فيها عن حياتها ومشاهد «فلاش باك» التقطها أبوها لها في مراحل سابقة، يروي لنا الفيلم قصة مؤثرة وملهمة، تخلو من التقريرية أو التعليق المباشر، لكنها توثق ليس فقط لحياة بطلته بل لوطن بالكامل معلّق على حافة التاريخ. موضوع «يأتون من بعيد» (5 نيسان ـ س: 19:00 ـ متروبوليس) قد يختلف عن موضوع «أمل»، فهو يتناول قصصاً عائلية متفرقة على مدار عقود، لعائلة فلسطينية تفرق أبناؤها وأحفادها بين الشتات، وهو يضع هذه القصص على خلفيات تاريخية وسياسية كثيرة. مع ذلك، ينجح بشكل عجائبي في المزج بين الخاص والعام، والحاضر والماضي، بشكل متماسك ومؤثر. أخيراً، يُعرض «عفاريت الاسفلت» (2 نيسان ـ س: 18:30 ـ دار النمر) أول أعمال المخرج الراحل أسامة فوزي الذي يعد واحداً من الإرهاصات الأولى والتأسيسية للسينما المستقلة في مصر، خاصة مع فيلمه الثاني الفارق «جنة الشياطين».
خرج «عفاريت الإسفلت» من عباءة الواقعية الجديدة وأفلام المهمشين التي انتشرت خلال التسعينيات، ليلقي بهذه العباءة على قارعة الطريق، معلناً ثورة فنية وأخلاقية جديدة تُعنى بالذاتي على حساب السياسي، وبالفنية على حساب القضية، وبالكشف على حساب الوعظ... من خلال الغوص في مجتمع يتحمم بالفساد ويتلحف بالنفاق.
إن عرض «عفاريت الإسفلت» ضمن تظاهرة تعنى بالسينما البديلة والشباب بشكل أساسي ليس فقط تكريماً لروح فنان استثنائي، ولكنه أيضاً اعتراف وامتنان لمخرج أسهم بأعماله في التمهيد للثورة الكبيرة التي غيّرت معالم السينما العربية مع بداية الألفية الثالثة.