لا يحتاج المشاهد لأن يكون سينيفيلياً إلى درجة كبيرة لمشاهدة «الممرّ». مجرد الإعلان عن أنه يتناول هزيمة 1967 وحرب الاستنزاف، سيجعله حدثاً يستدعي الاهتمام بالنسبة إلى كثيرين، لا سيما أننا في زمن الصداقات الجديدة. سرعان ما سيكتشف المشاهد أن الفيلم يلتف على السردية التي أنتجت اسم الحدث نفسه: النكسة. بمعنى أنها كانت «عابرة»، وعلينا التذكّر أن المسؤولية ليست على الجيش، إنما على «أفراد في الجيش». من خلال «نور»، الضابط الذي يلعب دوره الممثل أحمد عز، سيجد المشاهد نفسه أمام محاولة هشّة لصناعة بطل، أو محاولة لإيجاد أبطال من داخل الهزيمة، للتعويل عليهم. سيجد نفسه أمام تنظيف مضاعف لصورة العسكري التي تلوثت بالهزيمة أو بأي حدث آخر، أكثر من تلميع صورة الحرب ونتيجتها. الضابط البطل مثل الجيش تماماً. صورة منه وعنه: الأب والملهم والقائد.
إياد نصّار في الشريط

ثمة نقطة أساسية. لا يمكن أن يكون الفيلم ذكورياً وأبوياً أكثر مما هو عليه. وليس صحيحاً أن الأفلام انعكاس طبيعي عن المجتمعات. الأفلام هي ما يمكن قوله، وما يمكن الاعتراض عليه. ما يمكن المساهمة في تصويبه، وما يمكن التعمية عنه. المرأة الحاضرة في الفيلم دائماً تابعة، بالمعنى البطريركي المريع. ثمة مشاهد مجانية، لولا وظيفتها لتأكيد الطابع الذكوري لمنظومة الهيمنة في المجتمع. الضابط يعود إلى زوجته ويتركها من أجل الحرب، لكنها تقنعه بتغيير رأيه والبقاء معها، وزميله يفعل الأمر نفسه مع خطيبته. وهذا ليس كل شيء: تتوسل إليه أن يبقى معها! تفوّق الرجل في علاقات القوة، كما يظهر، هو نفسه تفوق الجيش في المجتمع. يعتذر «نور» عندما يخطئ، و«يغطيه» الجيش. والجيش يحظى بتغطية من المجتمع عندما يخطئ بدوره. أخطاء تجرّ أخطاء، وهيمنة الأقوى على قاعدة أبوية. في الفيلم، يصير «نور» شخصاً آخر مختلفاً تماماً بعد الهزيمة، ولا ينسحب هذا على مصر، إنما على الجيش. وهو الجيش الذي عاد وظهر أخيراً، وصارت صورته، برأي كثيرين، بحاجة إلى ترميم.
من نافل القول التذكير بأنّ سيرة المصريين الطيّبين، في 1967، وفي يناير المعاصر أو أي زمن، جنوداً وعاديين، لا تحتاج إلى تلميع. لكن السُلطة بحاجة إلى الكثير. وفي السياسة، يبدو أن الفيلم على طريق صفقة ترامب وحلفائه العرب: «أدى الجيش قسطه للعُلى». يحاول أنصار الصفقة تسميتها بصفقة القرن، وتلقى التسمية الفارغة قبولاً ساذجاً في الإعلام العربي، وكذلك يحاول الفيلم ابتذال المسؤولية والتاريخ بالأكشن السهل واستهلاك العاطفة. وهذا ليس مسلياً بالضرورة، بل مجرد عرض بغاية التشويق واكتشاف التقنيات. هناك محاولة «سينمائية» لتقليد «إنقاذ العريف راين»، أو «دنكريك»، أو حتى «فيوري». وهي كلها أفلام يعرف منتجوها ومخرجوها غالباً أنها غير محبوكة وأنهم اتكلوا على الجمالية البصرية لنجاحها.

أحمد عز في الفيلم

وإذا احتسبنا أن التقنيات لمصلحة العرض والتشويق، فالفيلم يبقى عالقاً في نوعين من الكليشيهات، الأول سينمائي صرف يتمثل بضعف الحبكة، والثاني أخطر وأسوأ، يتمظهر في الميل الواضح إلى تعزيز الأبوية، وسلطة الأب في المجتمع، وتحديد دور الزوجة ودور الابن، واحترام الهرميات المفروضة على الناس من دون نقاش، عبر حماية هذه الهرميات من آثار الهزيمة.
لسنا أمام سردية بديلة، وإنما عن قصة ضابط شجاع، بكل تأكيد كان موجوداً في الجيش المصري خلال تلك الحرب، وما زال موجوداً اليوم. المشكلة ليست مع وجود هذه الشخصية، بل مع تنزيهها كمدخل لتنزيه المؤسسة. ثمة إصرار على ضرورة التصالح مع الهرميات، بدلاً من الدعوة للانتفاض عليها. بمعنى ما، يبدو «الممر» فيلماً أقل من الهزيمة بكثير، أقل من هذا الحدث التأسيسي في تاريخنا المعاصر. ذلك أنها لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، والتعامل معها على هذا النحو دائماً، هو ما يدفع دائماً باتجاه استمرارها. وليس الفيلم وحده هو الذي يحاول تقديس السلاح على حساب أي شيء آخر، بل هذا تقليد توتاليتاري مشترك، حتى عند الحركات التي تستلهم أفكارها وانتصاراتها من مصادر أخرى. في الفيلم، هناك حديث عن القانون المدني والقانون العسكري، والإيحاء كما لو أن ثمة قانوناً يسري على الجميع. وثمة نقاش عن «الحاخام الأكبر» وعن «عشم ابليس في الجنة»، وهو تسطيح للبعد الديني ـ التاريخي للحرب، الذي عرف تفوقاً كبيراً للمصريين. لا أحد يفهم لماذا يستبدل بكليشيهات شعبوية.
محاولة «سينمائية» لتقليد «إنقاذ العريف راين»، أو «دنكريك»، أو حتى «فيوري»

وعلى سيرة التسطيح، هناك صوت فلسطيني واحد في الحرب. صوت الممثل إياد نصار الذي يمثّل الضابط الإسرائيلي. في هذا التمثيل نوع من الاختزال يحمل التباسات مختلفة. أولاً تمثيل العدو في شخصية واحدة هي الضابط. ثانياً، تمثيل الضابط الإسرائيلي في صورة متخيّلة دائماً عن المستعرب. ثالثاً، حشر اللهجة الفلسطينية في موقع غير موقعها، بغير ظهورها مع حليفها المصري. كما لو أن موقع هذه اللهجة هو «هناك»، في تلك الضفة من الحرب، حيث يجب على أصحابها «التعايش» مع هذا الواقع. أليس هو مغزى الصفقة السياسية أصلاً؟
إلى ذلك، يظهر جمال عبد الناصر في الفيلم بصورة رئيسية مرتين اثنين. في الواقع، تقوم السردية الليبرالية ضدّ عبد الناصر على اجتماع وشائج عدة، تبدأ بتسطيح الأزمة التي ورثها عن الكولونيالية، وتشتد عند الحديث عن الطابع الديكتاتوري لحكمه. وعند الحديث عن خلفيته العسكرية وأثرها في الحكم، تكتسب هذه السردية زخماً مضاعفاً من الليبراليين، يكاد يتبخر عند الحديث عن الرؤساء الآخرين. يظهر عبد الناصر في «الممر» على صورة، يشمت فيها الإسرائيلي، ويلصق بالرئيس المصري تعليق لا سامي، ثم يعاود الظهور في حديث الضابط نفسه مع الأسرى المصريين: «اعترف بنفسه بسبب الهزيمة، وعمل لصالحنا». التصديق ليس إلزامياً للمناسبة. كذلك، ليس صحيحاً أن دور المشير عبد الحكيم عامر مجهول في الفيلم. هناك تشديد على رغبة «نور» بالقتال، وعلى أن الهزيمة سببها «أوامر المشير». ولكن ليس الفيلم ولا مراجعته مكاناً كافياً لإعادة قراءة دور المشير، وهذا دور المؤرخين. ما هو مؤكد، سيجد المؤرخون أبطالاً في الجيش المصري، وهذا ليس منة من أحد. لكن العثور على أبطال في الماضي لا يجعل من ورثتهم أبطالاً في الحاضر.

* فيلم «الممرّ» حالياً في الصالات اللبنانية