ينزع العقل الهيليني إلى إفراغ السماء. لا أستطيع أن أنطق اسم السماء في «بلا هيبة» لأن الفيلم (كتابة وإخراج رافي وهبي)، المطروح حالياً في الصالات اللبنانية، يراوح داخل النماذج المتهافتة، بعيداً من المصادر المؤسسة. هذا فيلم إفراغ المصادر من المصادر والغايات من الغايات والسماء من أي رسم. الكلام على العقل الهيليني مزحة، كلام السينما في الفيلم كلام مزاح. لا انتفاض باطنياً، لا إيقاع، لا نبرة، لا بطاقة تصوير ضوئي، لا إرسال. ثمة ما يدور بين الدروب والسقوف، ثمة إفراط في الاستهلاك. استهلاك لا يُكبح، خداع لا يُكبح، لأن الفيلم مثال، مفرد، مرفوع ضد كل ضوء. هذا من رهن الإنتاج إلى طباع الكتابة والإخراج عند رافي وهبي، ورهن الكتابة والإخراج إلى الإنتاج. ما تستدعي اللياقة أن نسمّيه «الفيلم الشعبوي» لا الفيلم الشعبي. الشعبوي تهافت الإنتاج على كناسة الإبداع لصالح «الذوق الشعبي». لا يمتلك رافي وهبي حاجات السينما الأساسية. هكذا، يقدم فيلماً مثقوباً، تهرب السينما الفيلمية من ثقوبه كما تهرب الماء من السطوح لا الكتب.

لا وظيفة للفيلم، سوى حمل الكاميرا بهدف عبور الحدائق والمنازل والحقول والمقاهي في قرية لا تقوم إلا على التصنع لا الصناعة. لا ضحك ولا حبور. لا حياة تريد. أو ترغب بالحياة. الموت مداولة. موت يطيح المعايير، كل المعايير السينمائية. لا بنية جماعية ولا حضور فردياً للأبطال، حيث تغيب الأصول. نفخ ابن التلفزيون مشهداً تلفزيونياً بحيث حوله إلى لا جسد سينمائي إلا بعينه. عين أصابها العمى من تفريغها من أشيائها الأولى. الحدث الفجائي من البداية السيكولوجية، حيث لا رغبة بإنتاج «فيلم سينمائي»، إلا على قطن اللهجة أو معادن اللهجة. لهجة عموم أهل البقاع، الشرقي والغربي والأوسط. هذه موضة هذا الزمن، بعدما أوجد الأخوان رحباني لغة غير مصابة بالترقق ولا بالاعتلال من وجهة نظريهما الخاص. اكتسبت اللهجة البيضاء طبائعها المقدسة مع الأخوين رحباني. جزء من النشاط الثقافي للأخوين، لم يلبث أن أضحى جزءاً من روح علم الاجتماع اللبناني. أضحت اللهجة البيضاء قناع من لا يرغب بالإفصاح عن الهوية أو الانتماء. اللهجة جزء من فعل إنساني عام، حتى جاءت فرقة «الحكواتي» اللبنانية لتطيح بما أضحى جزءاً من شعائر العبادة عند اللبنانيين، جزءاً من البناء الكنسي، لا كمرد إلى علاقة الإنسان بالله، كمرد إلى علاقة الإنسان بالحياة.
اللهجة تخفي، اللهجة لا تفصح. اللهجة تتراقص على الألسنة بصورها السوية. إنها الستينيات من القرن العشرين. خالفت «الحكواتي» في السبعينيات، هذا النشاط بالقفز فوق فكرة صهر الناس باللهجة الواحدة. البلاد لهجات. إذن، لهجة أهل الجنوب اللبناني ذات وظيفة تعبر عن وصل الناس بالأرض، بالتاريخ بالذاكرة. لا طمس بعد اليوم لهذه البلوريات الشفافة. عوّضت بـ «بالعبر والإبر» و«من حكايات ١٩٣٦» و«أيام الخيام». عوضت المسرحيات الثلاث عن حضور لهجة الكهنوت الرحباني بلهجة كهنوت آخر. لهجة أهل الجنوب أضحت لهجة كهنوت آخر. هكذا، نظمت الكثير من الدرامات على الكهنوت الآخر. درامات مسرحية ودرامات تلفزيونية. امبراطورية اللغة البيضاء تنتهي على حري وجري كلام الناس، الجماعات، بلهجاتها. جاء دور لهجة أهل البقاع لكي تضحي لهجة كهنوت، لهجة ثالثة. الكل يعمل بملء استقلاليته حين يستخدم اللهجة (اللغة إذا ما تم التوقف أمام المعاجم المحلية. هذا نادر).
لم يتحدد عالم «الهيبة» في جزئه الأول إلا بحضور اللهجة الثالثة. البقاع إمبراطورية يتكلم بشرها لغة غير لغة اللبنانيين الآخرين. هكذا، اشتهر بعض اللبنانيين، لأنهم يتكلمون لهجة أهل البقاع بعيداً من كراسات الكيمياء بين الجسد والنطق، لأن الكيمياء هذه الكيمياء لا تتذكر الأقوال باللهجات لأن الأقوال جزء من اللهجة واللهجة جزء من الأقوال. لا إجادة، حين تحضر اللهجة كجزء من السلوك المخبوء أولاً، ثم المنشور على فضاء البلاد. حولت اللهجة بعض البشر إلى أصحاب حضور مقدس بحيث جرى إحياؤها في جزء بعدما قتلوا بجزء سالف. اللهجة الشكل المحتم للنجاح. كل من يمتلك اللهجة، يمتلك صندوق المُلك الجديد. «بلا هيبة» لا يمتلك سلطة الحكم على الأشكال الفنية إلا من خلال توهم سيطرة اللهجة بمقدار ما هو غير ضروري على هذا الفضاء أو الفضاء الآخر. تعذر صهر اللهجات ودمجها.

أين كميل سلامة؟

حين يتقدم اسم عباس جعفر اسم كميل سلامة على ملصق «بلا هيبة»، يعلم من لا يعلم أن دروس النهر انتهت في المستنقعات، مستقنعات الاستهلاك، وأن عكس السير أصبح هو السير، وأن الإنتاجات تتنصل من كل مطلب. وأن لا خلاص. الخسارات الفنية والثقافية بالأفلام السينمائية، طويلة كالعنين.

لم يحدث هذا. هكذا ، قلَّد رؤوس «بلا هيبة» اللهجة، بحيث فحّمت اللهجة الكلمات والجمل. لا بأس من عدم القدرة على السيطرة على اللهجة، لولا أن الفيلم يريد أن يقرأ حضوره من مصدر اللهجة لا من الأشياء الأخرى. هكذا ، أضحت اللهجة بلاغاً. هكذا، قامت المعادلة على منح الفيلم جسده من اللهجة، لا من الرؤية وأشكال العلاقات وأحصنة الفكر. لأن قيام فيلم/ ناموس على قاعدة النزوع إلى الركوب على نجاح اللهجة في مسلسل، باعتبار نجاحها طريق الأنبياء الجديد، له وظيفة مزيفة: تعليم الجماعة أن التفتيت هو أحد أشكال الديمقراطية، أحد أشكال الإبداع. جاء دور لهجة أهل البقاع بعد اللهجة البيضاء (ما اعتبره الكثير من اليساريين لهجة أهل الجبل) ولهجة أهل الجنوب، لكي تخرج من حجبها الحاجبة. إلا أن خروج اللهجات خروج إكزوتيكي لا خروج حقيقة الكائنات بكامل عناصرها.
اللهجة سرير، إلا أن فراشه مليء بكل ما يعقص، حيث لا يحلم البشر في «بلا هيبة» إلا بالقبض على مسودة اللهجة، حيث بدا عباس جعفر (صاحب التجربة المحدودة) مرفهاً من امتلاكه اللهجة. امتلك ابن البقاع لهجة أهل البقاع. ما سوف يعتبر حلاً جرثومياً سريعاً، في مختبرات الإنتاج «الجديد». الفيلم قميص كبير على عباس جعفر. الفيلم قميص ضيق على بعض العاملين في الفيلم، لولا أنهم قبلوا بالتواطؤ بلعب أدوار الأحياء الأموات، بدون تعب، لكي يداروا ثلج الفيلم بتسليماتهم الطولية والعرضية. لا قلاع، إذن لا سلاح. الفيلم أي شيء واطئ، لا قلعة. لا ضرورة لحضور الأسلحة لممارسة أنواع من الشقاوة أمام هده اللغة المبلولة برحلات الناس إلى حقولهم وعرقهم وهم يضربون محاريثهم بأرضهم، طريقهم السريع إلى لغتهم لا لهجتهم لأن اللهجة جزء من اللغة.
ثمة ما يذكر بأبواب جهنم بالفيلم، حين تغيب الفرق والبرامج والمناهج والألعاب والمباريات والمقالات. لا مقالة واحدة في «بلا هيبة». فذلكات لا تساعد على نص تقليدي أو نص سبور. لا قصة ولا نص ولا سيناريو ولا حوار. لا شيء سوى محاولة وضع الفيلم على رف إنتاجات الليث حجو ، من «ضيعة ضايعة» إلى «الخربة». «الخربة» أكثر. فتح بريد الخربة يذكّر، بدوره، أنّ الخربة لم تصب بنزلة برد اللهجات، حين أخذ كاتبها ومخرجها اللهجة كجزء من مساحات الحياة الواسعة. جزء من الطباع. لا إنجاز من وضع الأصابع بالخربة، إلا ترييف العادات من فرط السذاجة. ما لا يتمناه لا البشر ولا الشجر. أخطأت كل الخيول في مرمح الفيلم. الفيلم مقامرة على طاولة الرهان. رهان على الاسم. الاسم وحده. ثمة فرق واضح وجلي، حيث أن ريبرتوار «الهيبة» جنى الكثير، في حين لم يجنِ «بلا هيبة» غير حمل الفيلم إلى البحر. نص بلا أجنحة، نص بلا حذاء. إحراق كامل لكتب السينما وأفلامها. لا شيء في فيلم رافي وهبي إلا الرغوة، رغوة حراسة السينما بشروط السوق. لم يستطع الرجل خداع الفيلم السينمائي. لم يستطع إلا خداع ذاته. سماجة بالكيلو. الفيلم قشرة موز. مسح جديد لعالم الموتى بعالم السينما. لا نص ولا إخراج. لا كادر، لا زاوية، لا تشكيل. لا شيء إلا الخفة. يقلّم رافي وهبي كل لوحة محتملة، يقلم كل جسارة في صناعة مشهد. أكواريوم يغرق سمكه على سطح مائه، بعيون نصف مفتوحة، نصف مغلقة. لا شيء سوى الخلل، في ما يعتبر شريطاً/ جثة.
التضاريس لا تكذب، لا تقوم التمارين العصبية. وجد النص في «بلا هيبة» ضربته الخاطفة بلهجة عباس جعفر، لا عباس جعفر نفسه. هكذا، أفقد النص جعفر أثره الأوحد فيما ظهر فيه من «كوميديا التلفزيون» بدءاً من «شي أن أن»: فطرة الرجل. لا يمتلك عباس جعفر من قسمات التمثيل واحدة. لا يمتلك إلا وجهه المشدود ولهجته غير المتأنقة. لا سكة حديد لدى الكاتب والمخرج. لذا، لم يوضع القطار على السكة. لا قطار ولا سكة. الحياة بالخيال، الحيلة بالخيال. هكذا ، راحت الضحكات تموت وهي عند طرف العصب الأول، في رحلة تسلق الأعصاب. جنوح كامل، في حكاية الشاب البسيط (لكي لا نقول المعوق) نحو التبسيط لا البساطة. ثمة بون هائل بين البساطة والتبسيط. يتناسل الموت بكريات الدم كلما أوغل المشاهد في المشاهدة. لأن قطار الفيلم ضائع بين قصة حب بلا تأمل وبلا إيلام. قصة الحب بين الشاب البسيط والفتاة الجميلة. بينهما كل أسنان القبائل/ العائلات وشَعرٌ من تلفيق الأحداث. هكذا، يصبح من يدعوه أهل القرية «بلا هيبة» زعيم القرية. لأن شقيقة الجد ابتدعت حلّ أن يسلم الجد العباءة للحفيد، بحيث لا يخسر الزعامة، ما دامت العباءة على كتفي الشاب، بعدما تآمر الأصهرة على أب زوجاتهم، من دبت حكايته على منام رآه. منام سخر فيه أحدهم منه، ما اعتبره تهديداً لزعامته، حتى فرض التلصص على نبرات أهل القرية ليكتشف من هشم زعامته بصوته بالمنام، بقراءة التطابق بين الصوت بالمنام وأحد أصوات أهل القرية. عبقرية تفلق السرايا المشمسة عند مفترق الطرق. اختلاق، لا فانتازيا. انحناءة لاصطياد طائر السينما بدون نجاح. برد يتمدد على ساعتين أو أقل. برد ساعات، برد يهشم كل شيء.

وجد النص ضربته الخاطفة بلهجة عباس جعفر، لا عباس جعفر نفسه


لا صدق ولا سعرات حرارية. لا حب للسينما، لا شفقة على السينما. جسد هش. لا جسد بالأحرى. راديو بهواء صالات العرض. غرٌ وغرٌ وغرُ. الختام ختام كل الأفلام. عرس مع واحدة من فرق الزفة/ الفطر.
لم يتعلم رافي وهبي التلصص على السينما (الإنتاجات ذات الوجه الخاص) لكي يقع على لحظات صفاء السينما، لكي يقع في لحظات قوة السينما. هذه سينما رثة لا سينما بروليتاريا رثة. سينما/ كانتون يعمل أفراده على قتل الفرص، بتحويل كل الفرص إلى فرص ضائعة. لا شيء مباغت. لا تلويحة. ألواح ثلج في رقصة تانغو طائشة، لا يستطيع الراقصون فيها الاقتراب من بعضهم كبشر عاديين أو كجنرالات. لا حدس. الحدس مفقود مع مجموعة من الممثلين، من يتمتعون بتواريخ من اللؤم بالتعامل مع الأدوار في أفلام ومسلسلات قديمة. كميل سلامة ودارينا الجندي وميراي بانوسيان وعدي رعد وغيرهم. لا شيء مما تمتعوا به سابقاً. انشغال بآلام الأداء وتحمل المصادفات. ستيفاني عطالله حب «محسن» على بعد خطوات من صناعة حضورها. لعلها تمتلك حكمة الحضور في خطواتها اللاحقة. هذا فيلم متاع، يبتاع حضوره من انكماش المعرفة. صناعة فيلم عن التنمر، بوضع التنمر في حاوية من يتزوج بطلها العدم العميق. كل شيء منزوع من التقويم: إقناع صديق محسن صديقه بالزواج من حبيبته لكي يحيدها من درب من من يطلبها لنفسه، على أن يعيدها له بعد عبور العاصفة. شريط من العجلات بدون لوازم تنظيف. بدأ عمار المنزل من الآنية: أغنية. دليل إجهاض حازم. الممثلون كورال حزين. النص فولار من الأحداث الكاريكاتورية (دهن الحمار باللون الأبيض، ارتداء محسن لملابس الحبيبة في مخدعها حيث وجد في واحدة من حقائب ثيابها...). مهزمون لا يرتبون خراباً يليق بهم، إذ يتركون ترتيب الخراب لمن نصّ الفيلم وأخرج الفيلم وهو يرتب فيلمه بالاستسهال لا بالنشاط. السينما هنا، لا سينما، حتى سينما ما مضى. عين لا تخجل: غلو على الدوام. سوف تحوي أرض «بلا هيبة» الملعونة ما يخطر وما لا يخطر في بال (حفلات تعذيب، رقص أمام صورة الزعيم الجديد). لا عقل يقود إلى النصح. سوف ينتهي الفيلم بوقوف شخص لم يتكلم أبداً في الفيلم على الشرفة وهو يراقب الجموع المهنئة. إحالة ولادية. وبارتفاع ضحك شيخ القبيلة وهو في جنازته المقنعة. حبذا لو تمسك الفيلم بصمت الشخصية الصامتة، بدل أن يقع في أخطاء المصارعين وفي استعراضاتهم الأشبه بصناديق الأحاجي. صناديق لا تفعل سوى أن تسعر الحضور بالطرق المناسبة.