البندقية | «إن أخرستَ الحقيقة ودفنتها تحت الأرض، سوف تنمو، وعندما تنبت قد تنسف كل شيء في طريقها». قالها إميل زولا يوماً. هو نفسه الذي كتب رسالته المفتوحة «إني أتهم» إلى فيليكس فور رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، وقد نشرت على شكل مقال في صحيفة «لورور» أوائل عام 1898. يومها، عبّر زولا عن رأيه بجدية حول «قضية دريفوس» إحدى أكبر الفضائح في التاريخ الفرنسي، وحول المناخ المعادي للسامية السائد في الجمهورية. حُكم على زولا بالسجن لمدة عام ودفع غرامة قدرها 3000 فرنك بحجة «ازدرائه للقوات المسلحة». لكن تلك الرسالة هي بالضبط التي أعادت فتح القضية، حيث كشفت تورط الجهاز العسكري الفرنسي بأكمله.في فيلمه الجديد «إني أتهم» الذي عُرض قبل أيام ضمن المسابقة الرسمية لـ«مهرجان البندقية»، يجلب المخرج البولندي الفرنسي رومان بولانسكي هذه القصة إلى الشاشة الكبيرة بإخلاص. وعلى الرغم من أن الأحداث تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، إلا أنّ القصة لا تزال طازجة. يروي بولانسكي «قضية دريفوس» بصرامة وتوتر متصاعد في نوع من البحث السينمائي، يهدف إلى إبراز الحقيقة والعدالة ببلاغة سينمائية عالية.

رومان بولانسكي وألفريد دريفوس: حالتان متوازيتان
«كيف وصلت إلى هذا المأزق لن أعرف أبداً، شيء لا يصدق على الإطلاق أن يتم إعدامي بسبب جريمة لم أرتكبها. ولكن أليس البشر كلهم في مركب واحد؟ ألا يُعدمون في النهاية بسبب جرائم لم تُرتكب أبداً؟» يقول بوريس (وودي ألن) في تحفته «حب وموت» (1975) بفكرة وجودية، مستنداً إلى رواية فرانس كافكا. ولكن أيمكن في الحياة الواقعية إدانة شخص من دون سبب، كما حدث لجوزيف في «المحكمة» لكافا؟
يتماثل تقريباً رومان بولانسكي بالنقيب ألفريد دريفوس، اليهودي الذي اتُّهم بالخيانة وهو بريء. «القصص العظيمة غالباً ما تلهم أفلاماً عظيمة، وقضية دريفوس هي قصة استثنائية. قصة رجل متهم ظلماً هي قصة آسرة دائماً وقضية معاصرة للغاية». قالها بولانسكي في البيان الصحافي للفيلم: «معظم الأشخاص الذين ضايقوني لا يعرفونني ولا يعرفون شيئاً عن القضية. وصنع فيلم كهذا يساعدني كثيراً» أضاف بولانسكي عن تجربته الخاصة في الحياة؛ من النجاة من الهولوكوست إلى فقدان سمعته المتعلقة بتهم الاعتداءات الجنسية التي تلقاها خلال السنوات الأربعين الماضية. «إنها مثل كرة الثلج، تضاف طبقة فوق أخرى. قصص غبية عن نساء لم أرَهنّ في حياتي، يتهمنني بأشياء يُفترض أنها حدثت قبل أكثر من نصف قرن. قصة الفيلم تشابه لحظات مررت بها، أستطيع أن أرى التصميم نفسه على إنكار الحقائق وإدانتي بأشياء لم أقم بها». وفي رده على سؤال حول سبب عدم قتاله، أجاب المخرج: «لماذا؟ إنها مثل قتال طواحين الهواء».


أثارت قضية بولانسكي جدلاً قبل المهرجان وخلاله. المدير الفني للمهرجان ألبرتو باربرا دافع عنه، ورئيسة لجنة التحكيم لوكريسيا مارتل انزعجت من مشاركة فيلم لبولانسكي الذي لم يحضر المهرجان، فيما ضم المؤتمر الصحافي الممثلين وأحد منتجي الفيلم وزوجة بولانسكي الممثلة إيمانويل سينيه التي لعبت دوراً في الشريط. ولكنّ أحداً لم يذكر القضية والجدل المثار ودار الكلام في المؤتمر الصحافي حول الفيلم فقط. لكن زوجته قالت: «لقد عانى المضايقات نفسها التي تعرض لها دريفوس». سرد بولانسكي (86 عاماً) بكل موهبته قصة تاريخية عن العدالة والحقيقة، قسمت الناس والرأي العام، فهل هي إشارة واضحة لوضعه الحالي الشخصي؟

عمَّ يتكلم فيلم «إني أتهم»؟
تعد «قضية دريفوس» أحد أكبر الأخطاء القضائية الصارخة في التاريخ، حدثت في فرنسا بين عامي 1894 و1906 وأدانت الجندي اليهودي الفرنسي ألفريد دريفوس ظلماً بأنه جاسوس وحاكمته بتهمة الخيانة العظمى. قاتل دريفوس أمة بأكملها من أجل إثبات براءته، وحظيت قضيته بتغطية إعلامية كبيرة قسمت الرأي العام في ذلك الوقت. كتب رومان بولانسكي سيناريو الفيلم مع روبرت هاريس، مؤلف رواية «ضابط وجاسوس» التي يستند إليها الفيلم.
في أوائل عام 1895، يراقب جورج بيكار (جان دوجاردان ــــ أوسكار أفضل ممثل عام ٢٠١١ عن فيلم «الفنان»)، وهو ضابط في الجيش الفرنسي، الإدانة العلنية لألفريد دريفوس (لوي غاريل) النقيب اليهودي المتهم بأنه جاسوس للأعداء الألمان. تتبع الاتهام، إدانة ونفي دريفوس إلى جزيرة الشيطان. يترقى بيكار، للوحدة الاستخباراتية العسكرية نفسها التي أدانت دريفوس. عندئذ يدرك بيكار أن مرور المعلومات للعدو لم يتوقف. ماذا لو أدين دريفوس خطأً؟ وهل كان ضحية لخطة وُضعت من قبل بعض الاستخبارات العسكرية المضادة؟ تشغل هذه الأسئلة بال بيكار المصمم على اكتشاف الحقيقة حتى على حساب عمله. الضابط والجاسوس متحدان الآن ومستعدان للتضحية من أجل الدفاع عن نفسيهما وإثبات البراءة.

القصة ببلاغة وحنكة سينمائية
ليس الفيلم مجرد إعادة إعمار للحظات حقيقية تاريخية، ولا هو فيلم شجب أو إدانة، ولا قصة صداقة كبيرة (لم يكن هناك في الواقع علاقة شخصية بين بيكار ودريفوس). الفيلم هو نوع من التحقيق الدقيق في غرف السلطة، حيث تظهر تناقضات وحقائق تدريجية وإغفال وتزوير للوثائق ومؤامرات بين طيات الحوارات الضيقة وغبار الملفات العسكرية. لم يفقد بولانسكي هبة الاستعارة والتدقيق. لم تظهر شيخوخته في الفيلم الذي كشف ـ في تدفقه المتواصل خطوة بخطوة، غرفة تلو أخرى، وجهاً تلو آخرـ وضوح البنية السردية التي حافظ عليها المخرج والتنسيق الحكيم في كل مشهد.
هذه ليست المرة الأولى التي تقدم قضية دريفوس في السينما، لكن بولانسكي يختار أن يروي القصة ليس من جانب المدان ظلماً، إنما من جانب بيكار. الرجل ذو صلابة أخلاقية، لا يترك شيئاً يقف في طريق ما يعتزم القيام به. بعيداً عن كونه عسكرياً؛ لم يخف بيكار من معارضيه وصمت رؤسائه، ولم يتردّد في دفع ثمن شخصي من دون أن يدعي البطولة، فالرجل لديه عيوبه، موضحاً أنه كان رجلاً في عصر اللاسامية مثل معظم الناس في ذلك الوقت. لم يكن بيكار أكثر من مجرد رجل عادل وهذا يكفي للفيلم. فمتاهة المسؤولية، والتواطؤ، والآلة البيروقراطية الهائلة التي واجهها قد أثرّت فيه بكل ما فيها من وساطة مرعبة، وأنانية، وفساد.
الفيلم قوي، كلاسيكي معاصر، حسن الصنع، يستند إلى أداء ممتاز للممثلين


بصلابة وجاذبية وبحنكة بولانسكي الإخراجية، تلاشت الفترات الزمنية التي دارت فيها القصة؛ 12 عاماً، بين قرنين، بين الحرب الفرنسية البروسية والحرب العالمية الأولى. عصر تميزت فيه الأخبار المزيفة وعدالة وسائل الإعلام، التي كثيراً ما تترك فيها الحقيقة مجالاً للدردشة الاجتماعية، والكراهية تجاه أولئك الذين يعتبرون «مختلفين». في الفيلم أيضاً مناقشات حول حرية الصحافة، وحدود تدخل السلطات في الديمقراطية والحياة الخاصة للمواطنين، وإشارات للغة المعادية للسامية. من خلال التتابع الدرامي، وقصة الشرطي، والمحاكمات، أوضح بولانسكي مدى سهولة الاضطهاد والقمع التي يمكن أن تتخذ أبعاداً وبائية خلال فترة قصيرة، وكيف يمكن للناس الطيبين أن يتحولوا في لحظة إلى رعاع مسعورين.
الفيلم قوي، كلاسيكي معاصر، حسن الصنع، يستند إلى أداء ممتاز للممثلين. الكلمات المختارة قوية واضحة تضرب التاريخ الفرنسي المقسم بين معاداة السامية والقوميين والاشتراكيين الذي نتجت عنه أضرار جسيمة ومميتة. في «إني أتهم»، يتقن بولانسكي صنع متاهات سردية كثيرة التعقيد، ومعرفة كيفية إنشاء شخصيات غامضة وبليغة مع تأثير عاطفي قوي جداً.
قصة الفيلم بسيطة نوعاً ما ولكن لا يمكن إلا لرجل سينما عظيم تقديمها من دون الوقوع في الخطابة والابتذال والاختزال، بخاصة إذا أخذنا في الاعتبار توازي شخصية دريفوس مع حياة المخرج الشخصية. لا أخفي أنني من بين كثيرين ربطوا قصة الفيلم بما يحصل مع بولانسكي، خاصة بعد البيان الصحافي للمخرج، ولكن بولانسكي أذكى من ذلك. ليس لديه أي شيء ليثبته لنفسه وللعالم. كان حريصاً على عدم تلطيخ قصة ألفريد دريفوس بقصة خاصة به. لم يلعب دور المظلوم أمام عالم يتهمه. احترم القصة وأصر على نقلها إلى جيل جديد من دون تحويلها إلى معركة شخصية. ترك الفيلم يتحدث عن نفسه، تاركاً له قوة عاكسة بحيث يراه كل شخص كما يريد. «إني أتهم» فيلم اجتماعي سياسي ترك معاداة السامية، والظلم، والاختلافات، وتزوير الأمس، ليذكّرنا بمدى القلق الذي نحن فيه.



أحمد غصين يخرق «جدار الصوت»


أول من أمس الأحد، عرض «جدار الصوت» لأحمد غصين ضمن «أسبوع النقاد» في «مهرجان البندقية». الشريط يعتبر الفيلم اللبناني الأول الذي يشارك عن هذه الفئة. ووفق بيان القائمين على العمل، حضر غصين مع معظم ممثلي الفيلم من بينهم بطرس روحانا، وعصام بو خالد، وكرم غصين، وسحر منقاره، و«استقبل العاملون في صناعة السينما والجمهور الإيطالي الفيلم بحفاوة ولاقى استحساناً من النقاد العالميين والإيطاليين». علماً أنّ الشريط يتحدث عن الشاب الثلاثيني مروان الذي يتوجّه من الضاحية إلى الجنوب إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز (يوليو) 2006، بحثاً عن والده. وإذا به يجد نفسه محاصراً مع أربعة من أبناء بلدته في منزل أحدهم. تستقر فرقة من القوات الإسرائيلية في الطابق الأعلى، لتتخذ الأمور منحى غير متوقع.