ربما يمكن اعتبار فيلم «الذاكرة الخصبة» (1980 ـــــ 99 دقيقة) للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي (مواليد الناصرة ـــ 1950)، واحداً من أهم الأفلام التسجيلية لا الفلسطينية فحسب، بل العربية أيضاً. يقدّم الفيلم الذي يمتدّ على قرابة مئة دقيقة، نظرة خاصة إلى المجتمع الفلسطيني من خلال تصوير حياتي امرأتين فلسطينيتين مختلفتين للغاية: خالة المخرج فرح حاطوم التي هي أرملة وأمّ وجدّة تعيش مع أحفادها، فيما الثانية واحدة من أشهر الكاتبات الفلسطينيات في جيلها، سحر خليفة. حاطوم تعايش الاحتلال وتقاومه على طريقتها ضمن نظرية المجتمع الفلسطيني في مناطق ما يسمى بالـ48: البقاء على قيد الحياة مقاومة. في الوقت عينه، تلجأ سحر خليفة إلى الكتابة كوسيلة «مقاومة» فاعلة ضد الاحتلال الصهيوني. خليفة سرعان ما تحوّلت (أي ما بعد الفيلم) إلى إحدى أهم الكاتبات وأشهرهن على الساحة الفلسطينية. أكثر ما يلفت في الفيلم بدايةً هو «افتتانه» بالمرأة، إذ يمرّ الذكور مرور الكرام، وهذا يعدّ تحية إلى المرأة يوجهها الشريط. ذلك أنّ دور المرأة الفلسطينية كان كبيراً وحيوياً للغاية (وما ابتعادها هذه الأيام عن أيّ دور مركزي/ رئيسي إلا دليل ومؤشر على سوء الوضع الفلسطيني الثقافي/ الاجتماعي).يبدأ الفيلم مع يدي فرح حاطوم. يدا امرأة مسنّة لكن نشيطة، لا تتحدث كثيراً. كلماتٌ مقتضبة كل مرة، لكن الوجه جامدٌ صلب، حتى مشيتها المثقلة تبدو واضحةً. ينتقل بعد ذلك مع موسيقى من التراث الكلاسيكي الفلسطينية (أغنية «هلا لالية») مع ثلاث نساء يخبزن وينظفن الثياب بالطرق التقليدية. بعدها، نشاهد فرح في الباص تتحدث عن حياتها من الخلفية: اللهجة الفلسطينية القوية تثبت أن المخرج أراد أن يحكي القصة عبر لسان بطلتيه بلا أيّ تدخلٍ من أي نوعٍ كان، وهي واحدة من أهم ميزات أعمال الدراما التوثيقية المهمّة. نحنُ أمام فيلمٍ من عام 1980 (يعني أنه صوّر في سبعينيات القرن الماضي) يمتلك ميزات وتقنيات أعمال الـdocu drama العالمية. هناكَ حزنٌ كبير في شخصية بطلته الأولى (وحتى الثانية لاحقاً). إنها لا تنظر مباشرة إلى الكاميرا حين تتحدث عن عملها ووراءها صورٌ للمسيح وتلامذته: «الشغل بالدير أحسن، بس بالمصانع بيعطي مصاري أكتر، والأرض مش معانا عشان نعيش منها». إنها حكاية الفلسطيني الدائمة وهاجسه ونكبته الدائمة التي سبّبها مَن سلب الأرض وحوّله إلى «ضحايا».
البطلة الثانية سحر خليفة، ذات ملامح هادئة، صلبة، بشعرٍ قصير، حديثها كفرح (البطلة الأولى) ثابت، حتى أسئلتها مباشرة وأجوبتها مباشرة أكثر. في الحالتين، كانت البطلتان مباشرتين بلا أي مواربة، تحكيان تجاربهما من دون أي «تجميل». يظهر ذلك حين يسألها المخرج عن «النضال»، فتخبره سحر: «النضال؟ كل اللي عملته أنا ما بشوفه نضال، إذا بدك تحكي عن النضال أعتقد لازم تحكي مع حدا غيري». هي ترى النضال عملاً عسكرياً (كما كان سائداً آنذاك) ومخالفة رأيها أو تأييده هنا لا يغير في الأمر شيئاً.
قائدة المقاومة العسكرية في مدينة يافا مهيبة خورشيد، كانت قائدة على والدها وشقيقها الشاب


طبعاً سيقول لك بعض محللي الأفلام وقراءاتها أنَّ الفيلم يتحدّث عن «محاربة الذكورية» في المجتمع الفلسطيني، وهذا الكلام قد يبدو مقبولاً إذا لم تكن تعرف شيئاً عن ذلك المجتمع. إذ ليس هناك ــــ خصوصاً ما بعد مرحلة الثورة الفلسطينية ــــــ أي تهميش لدور المرأة، فقائدة المقاومة العسكرية في مدينة يافا ــ على سبيل المثال- مهيبة خورشيد، كانت قائدة على والدها وشقيقها الشاب، ولم ينظر إليها على أنها امرأة «عاجزة» عن القيادة. لذلك، إن محاولة إدغام الفيلم وإعطائه رداء ليس له، هو ربما محاولة لإعادة «تسويقه» هذه الأيام بما يتناسب مع «تريند» العصر الحالي (حتى الأكاديمي منه) باعتباره «ينادي بحقوق المرأة ويهتم بها» منذ زمنٍ بعيد، وهو أمرٌ غير دقيق ولا حتى صحيح.
نشاهد سحر خليفة مثلاً تلبس ثياباً «أوروبية» (إلى حدٍّ ما) في الفيلم، ولا نجد معترضاً عليها (هناك أيضاً نساء كثيرات يمررن في الفيلم بالثياب نفسها، ما يوحي بأنه كان أمراً طبيعياً آنذاك). الأمر الآخر هو علاقة خليفة بزملائها في العمل التي تتسم بالندية. حتى إنها «توجّههن» في أحيانٍ ما. الفيلم كعمل وثائقي/ درامي يمكن اعتباره تصويراً واقعياً لحياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الصهيوني الذي يظهر في كل ثنايا الفيلم، خصوصاً في الحديث عن السيطرة على الأرض، أو المعامل، أو حتى فكرة التحرر التي يتطرق إليها كثيراً؛ كما في تعليق سحر على مسألة عدم وجود خادمة في منزلها.
باختصار هو فيلم قديم نسبياً، إلا أنه يؤرخ ويؤرشف تاريخاً مهماً من تاريخ الشعب الفلسطيني عموماً، والمرأة الفلسطينية خصوصاً وهذا أمرٌ مهمٌ للغاية في معركة صراعٍ وجودية طويلة.

* «الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفي (١٩٨٠ ــــ ٩٩ دقيقة ـــ باللغة العربية مع ترجمة إلى الإنكليزية): 18:30 مساء غد الثلاثاء ــــــ «دار النمر» (كليمنصو ـ الحمرا) ـ للاستعلام: 01/367013