«هل أنا الذي أشعر بذلك فقط؟ أم أنّ الخارج يزداد جنوناً؟» هذه هي الجملة الأولى الذي يقولها آرثر فليك (واكين فينكس) في فيلم «جوكر». يقولها آرثر والسيجارة بين أصابعه، مشيراً إلى «الخارج»، إلى المدينة التي يعيش فيها. ما قاله ينطبق تماماً على ما يحصل الآن، بخاصة في ما يتعلق بالفيلم. الضجة التي أثارها وما زال، ما هي إلا جنون مطلق. سأكذب إن قلت إنني لا أريد مشاهدة الفيلم مرة أخرى بعدما رأيته في «مهرجان البندقية» الأخير حيث حصل على جائزة الأسد الذهبي (على الرغم من تحفظي الشخصي على استحقاقه للجائزة وذكرتها في المقال الأخير من البندقية). أريد مشاهدته الآن أكثر (ينطلق عرضه في الصالات اللبنانية الخميس المقبل)، بعيداً عن زحمة المهرجان والأفلام.في البندقية فيلم المخرج الأميركي تود فيليبس حظي بإجماع لجنة التحكيم. من يومها لم تسكت الأقلام عن الكتابة والصحافيين عن السؤال عن الفيلم، عن العنف، عما ورائيات القصة، عن الجوكر نفسه، أعماله، مع خوف من عمليات عنف جراء عرضه، وتحذيرات من قبل الـFBI عن «رسالة الفيلم» (كأن السينما أو الفن بشكل عام يجب أن يكون لديه رسالة). بل إنّ المخرج والممثل الرئيسي أصدرا بياناً عن ذلك، تبعتهما شركة «وورنر براذرز» التي فعلت الشيء نفسه!
كل ما يثار حول الفيلم أشبه بالبثور السخيفة التي تظهر على الجلد، قبل أن تختفي فجأة. انتقاد موضوع العمل ووصفه بالخطير على المجتمع، ما هو إلا هراء. أولاً، رفضت دراسات كثيرة فكرة أن السينما أو ألعاب الفيديو هي محفز أو دافع للعنف في الحياة الحقيقية. ثانياً، لا تكمن المشكلة في السينما بقدر ما تكمن في إدارة بيع وحيازة الأسلحة في الولايات المتحدة. أخيراً والأهم، سأستشهد هنا بكلام إحدى أهم النقاد في تاريخ السينما، بولين كايل التي قالت: «في الفن، الناقد المستقل هو المصدر الوحيد للمعلومات، الباقي ما هو إلا دعاية». كل هذه الضجة مجرد دعاية ستنتهي فور طرح الفيلم في الصالات تجارياً. ربما أكون متطرّفاً برأيي ولكن ما يُثار ليس بجديد، فالتسويق جزء من أي عمل فني، وخاصة في السينما وهوليوود شاهدة على ذلك. لندَع كل ما سبق لأنه سيندثر قريباً، ولنتحدّث عن الفيلم سينمائياً.
يؤكد هنري بيرغسون أن أيّ ضحكة ليست سوى نتاج شرّنا، وجميع النكات مضرّة. الفكاهة البيضاء غير موجودة، فهي ملطخة دوماً بشيء ما: دماء، دمعة، يأس... نضحك لسبب بسيط أننا بطبيعتنا حيوانات مستاءة. يزعجنا أنهم يفرضون قيوداً علينا من دون سبب. هذا ما يعنيه العيش في المجتمع! يضع فيلم تود فيليبس مهرجاً فقيراً في وسط مدينة. المهرّج ـ برأيه ـ مكرّس لجعل الناس سعداء: يغني، يعوي، يسقط على الأرض... المشكلة أنه يعتقد أنه مضحك ولكنه ليس كذلك، ولكن لا يمكن أبداً تجاهل ضحكته!
«أسوأ جانب من المرض العقلي هو أن الجميع يتوقع منك التصرف كأنك لا تعاني منه» يكتب آرثر في مذكراته. هو رجل دمرته حياة يسودها العنف والسخرية والشك والوحدة. ابتكر تود فيليبس صورة رجل غير مستقر نفسياً، في غوثام المفلسة والفاسدة التي يهيمن عليها رأس المال متمثلاً بتوماس واين، والد بروس واين (باتمان). منذ الدقائق الأولى، يصبح جلياً أن آرثر ليس شخصاً شريراً، بل إنّه يجعلنا نتعاطف معه. على الرغم من الاضطهاد الذي يجب أن يتحمله كل يوم، إلا أنّ لديه حلماً كبيراً. آرثر مهرج مفلس مريض يحلم بأن تكون له مساحة في برنامج تلفزيوني ليضحك الناس، ولكن الواقع غير ذلك. إنه يعتني بوالدته المريضة في البيت الصغير الذي يعيش فيه. ليست هناك سعادة في حياة آرثر، على العكس، منذ البداية، يجد نفسه يواجه نزيفاً طويلاً من الخير القليل الذي يقدمه الواقع. قطعت الخدمات الاجتماعية والبرنامج الذي يزوده بالدعم النفسي والدواء، فقد وظيفته، ومرضه يزداد سوءاً... بضحكته اليائسة التي تقشعرّ لها الأبدان، يتحول آرثر إلى جوكر.
في هذا الوقت حيث عالم الألوان الخارقة العملاقة للعلامات التجارية كـ «دي سي» و«مارفل» تجتاح السينما، يأتي «جوكر» علامةً فارقةً، لا يشبه أفلام «الكوميكس»، وقادراً على الوقوف على قدميه وحيداً بعيداً عن الجميع. ولو أنّ «جوكر» يعتمد بشكل فضفاض على شخصية من شخصيات عالم «باتمان»، إلا أنه لا يمكن وضعه في أيّ قالب من قوالب أفلام «الكوميكس». فالمخرج يعطي الجوكر الفوضوي لعبةً جديدةً تماماً تبدأ من أصل الحكاية. أولئك الذين يتوقعون فيلماً ترفيهياً خارقاً، سوف يخيب ظنهم. فهذا الفيلم هو دراسة شخصية قاتمة وكئيبة وعنيفة. بينما نغوص في العالم المظلم للشخصية والفيلم، يمكننا فوراً رؤية أوجه الشبه بينه وبين اثنين من كلاسيكيات السينما «سائق التاكسي» و«ملك الكوميديا» لمارتن سكورسيزي. مع الجو العام الذي يبدو قريباً إلى السبعينيات، والاكتئاب الواضح إضافة إلى بعض القضايا السياسية، يمكن اعتبار العمل تحية إلى «سائق التاكسي»، في حين أن العناصر الكوميدية مستوحاة بشكل كبير من «ملك الكوميديا». بمهارة فعل فيليبس ذلك من دون انتحال كلا الفيلمين، وترك بصمة جوكر واضحة.
أوجه شبه بينه وبين سائق التاكسي» و«ملك الكوميديا» لمارتن سكورسيزي


مثلما «أفترض» أنّ العديد من الناس سيسيئون تقدير الفيلم بعد طرحه، وسوف يُساء استخدامه لأغراض شريرة، يحدث الشيء نفسه داخل الصورة المصغرة المقنّعة للدراما الشخصية لآرثر. هنا الحدود بين «الخير» و«الشر» قريبة جداً، بالكاد يمكن أن نقف إلى جانب واحد. القسوة الجامدة والعنف والوحشية المخيفة لجوكر، ما هي إلا نتيجة واقع لا يمكن التحرر منه. التعاطف مع الشخصية يضعنا في حيرة. إنّنا نشعر فعلاً بالتعاطف مع الشخصية الرئيسية في البداية بحيث يصعب أن نراه يسقط في حفرة مليئة بالقرارات المشكوك فيها التي لا يستطيع الخروج منها، فتصبح الحدود بين الخيال والواقع وبين ما نراه وما نشعر به أكثر ضبابية. حتى إنّ آرثر قالها: «أنت تقرر ما هو الخير والشر بالطريقة نفسها التي تقرر ما هو مضحك وما ليس مضحكاً».
الفيلم إشكالي للغاية، يقدم أيقونة جديدة للكراهية والقتل مع شرعية كاملة. «جوكر» هو الفوضى الصرف، ونحن نعلم من أين جاء. جاء منّا نحن المجتمع والجمهور، حدّقنا به متأثرين باشمئزاز وعشق. يظهر الفيلم الجنون كأصل، لكنه لا يبرر شيئاً. العنف ليس تعبيراً عن أي شيء، بل هو سبب ومعنى كل شيء.
يحتل واكين فينيكس الفيلم بأكمله... ما كان هناك «جوكر» لولا واكين. وجهه في كل ثانية قبل وبعد التنكر، ولو لم يكن موجوداً على الشاشة، نشعر بوجوده. هو في المجتمع، يمكن أن نراه في كل وجوه العالم المضطهدة، يحاول إيجاد مكان له في المجتمع الذي يلفظه. وبالرغم من فوضويته، فإن انتقامه ليس محرّك أفعاله.
على الرغم من أنني ذكرت أن الفيلم لا يستحق أسد البندقية الذهبي، وهنا أرددها مرة أخرى، إلا أنه لا يمكن تجاهله. فيلم لمخرج اعتقد أننا قلّلنا من شأنه لفترة طويلة كصانع أفلام. تود فيليبس مخرج كوميدي نجح تجارياً في أعمال سابقة، والآن أظهر للعالم مهارته في دراسة شخصية وفيلم حساسين. في النهاية، العمل ليس تحفة فنية ولكنه ذكي وجيد الصنع. يرسم ابتسامة عريضة على وجوه محبّي الكتب المصورة، ويرتبط أيضاً بمصطلح «كلاسيكي»، مليء بأداء لا ينسى ودراسة شخصية عميقة وبعض التحولات المفاجئة في النهاية.

* «جوكر»: بدءاً من الخميس في الصالات اللبنانية