تحتوي أفلام المخرج الروماني كريستي بويو دوماً على متاهات، يسجننا ويضيّعنا فيها، سواء أكانت غرفاً أم ممرات المستشفيات في فيلم «موت السيد لازاريسكو» (2005)، أم طرقات وحواري بوخاريست في «أورورا» (2010)، أم مؤامرات مشوّشة وعلاقات أسرية مضطربة كما في فيلم «سيرانيفادا» (2016). الروماني الشهير الذي يصف نفسه بأنه مراقب وناقد اجتماعي بروح دعابة سوداء، يعتبر أهم اسم في «الموجة الرومانية الجديدة». في فيلمه الجديد «مالمكروغ» Malmkrog الذي افتتح مسابقة Encounters المستحدثة في «مهرجان برلين»، يقدّم بويو متاهة كلمات بطول ثلاث ساعات ونصف ساعة تقريباً. الفيلم عبارة عن سجن للغة والخطابة لا يمكن للشخصيات ولا الجمهور الهروب منه. متاهات كلامية مربكة، أطروحة فلسفية تقدم محاكاة ساخرة خاصة، مستوحاة من نص الفيلسوف الروسي فلاديمير سولوفيوف «الحرب والمسيحية: ثلاثة أحاديث» (1915).
مشهد من فيلم «مالمكروغ» الذي افتتح مسابقة Encounters المستحدثة في «مهرجان برلين»

في منزل ريفي كبير في ترانسيلفانيا، في نهاية القرن التاسع عشر، يجتمع ضيوف في بيت المالك نيكولاي قبل أيام فقط من عيد الميلاد. هم عليّة القوم بينهم جنرال عسكري، رجل نبيل، سياسي وسيدات ارستقراطيات. الفيلم مقسّم إلى ستة أجزاء، خُصِّص كل جزء لشخصية. الروتين اليومي في الفيلا هي المحادثات الطويلة: يقفون في الصالون ويتحدثون، يتناولون الطعام ويتحدثون، ينتظرون العشاء ويتحدثون، يشربون الكونياك ويستمعون للبيانو وهم يتحدثون. وبينما يتناقش الجميع، يحرص الموظفون في البيت على أن يسير كل شيء بسلاسة. يتم التعامل مع حالات الطوارئ بشكل سري، من دون إزعاج سيل المناقشات المتدفقة! يمكن سماع ضوضاء مراراً وتكراراً، لكن الضيوف يتجاهلونها، ويستمر النقاش إلى ما لا نهاية.
تتناول الأحاديث الطويلة أسئلة كبيرة حول الحرب والسلم والموت والمسيح وأوروبا والفلسفة واللاهوت والنظريات الاجتماعية. المهم هو كيف تتصاعد النقاشات ببطء وثبات. في البداية، يمارس الضيوف رصانة مثالية. تسود فرحة النقاشات، من دون أن يشعر أي شخص بهجوم الآخر. يتّفق الكلّ على إكمال النقاشات، ولو أنّ هناك بينهم من لا يريد ذلك. مثلاً عندما يقف الخمسة في غرفة الرسم، لمناقشة خطاب عن الحرب لمدة دقيقة، يستغرق النقاش ساعة كاملة، وتلتقط الكاميرا الدوّارة البطيئة جميع الشخصيات والغرفة. في الجزء الثاني، يتم التركيز أكثر على الموظف التنفيذي في البيت الذي ينظم الموظفين، ويوبخهم إن كانت هناك شائبة ما في أدائهم مثل مذاق الشاي. في الأجزاء الأربعة الأخرى، تصبح المناقشات سامّة، أكثر سلبيةً وعدوانيةً، فتنهار الرصانة، خاصة من جانب أولغا المؤمنة التي تتعرض لهجوم وسخرية بشكل علني. ليس سهلاً دوماً فهم الجمل والأفكار التي لا تنتهي، وسوف يلاحظ الضيوف ذلك أيضاً. عبارات مثل «لا أعرف ما الذي نتحدث عنه» أو «لم أفهم ذلك» تُستخدم بانتظام. يدور الفيلم حول نفسه وحول الأشخاص الذين يستمعون إلى بعضهم بعضاً. إنهم يحبون أنفسهم، يصفون أنفسهم بالمفكرين الكبار. يحبون الاقتباس من نيتشه، وروسو إلى تولستوي وماركس ثم تأتي أفكار الفيلسوف سولوفيوف الأكثر مباشرة والمشحونة فلسفياً.
«مالمكروغ» عبارة عن حوارات معقّدة، ذكية مع هجاء ومشاهد مضحكة


يلعب الشريط مع المشاهد. كلما انتهت مناقشة، تُفتح مناقشة أخرى. وبعد مناقشة مرهقة لا نهاية لها، يقول أحدهم إنّه من الضروري مواصلة الحوار. كأن الشخصيات محكوم عليها بالمحادثة، كما لو أنّها عقوبة ما. يطرح النبلاء أسئلة كبيرة، أكثرها وجودي يبقى بدون إجابات حقيقية. يكشف المخرج تصلّب جبهات المحادثة مع تقدم فصول الفيلم. ترقص كاميرته بين الشخصيات. وبناءً على تحالفات يتم تشكيلها، يتم إنشاء مشاهد جماعية أو شخصية. أولئك الذين يملكون الرأي نفسه، غالباً ما يقفون معاً في المشهد. وعندما تتباين الآراء، يُفصل المتحدثون عن بعضهم. القسم الأخير تقريباً، يتكوّن فقط من لقطات مقربة: الجميع الآن يقف وحيداً!
هناك دائماً شيء مخفيّ، وغير واقعي حتى عندما يحدث القليل. شيء غير معلن في الخلفية. يضع المخرج الممثلين أمام الكاميرا، وخلفها هناك أحداث تقع. بعض الشخصيات تتوارى خلف الأثاث الأنيق. وعلى الرغم من أن معارك الكلمات واضحة، هناك بقعة عمياء نلاحظها فقط في بعض الأحيان. في الخلاصة، الفيلم عبارة عن حوارات معقّدة، ذكية ومتطورة مع هجاء ومشاهد مضحكة. «مالمكروغ» يمكن ألا يكون أجمل أفلام بويو، ولكنه بالتأكيد أكثرها نضجاً وتعقيداً، ومعه يبقى بويو من أهم الأصوات في السينما الأوروبية.



أحد أهم وجوه «الموجة الرومانية الجديدة»
لا يمكن التكلم عن فيلم المخرج الروماني كريستي بويو الجديد من دون العودة إلى أفضل أفلامه السابقة، شخصياً أحب اثنين منها: الأول هو «وفاة السيد لازاراسكو» (2005) الذي يتحدث عن رجل عجوز يدعى السيّد لازاراسكو، يعيش وحيداً مع ثلاث قطط. يعاني من صداع سيّئ منذ أيام، فيشعر بضرورة استدعاء سيارة إسعاف لنقله إلى المستشفى. يُنقل طوال الليل من مستشفى إلى آخر. كل مستشفى يشخّص حالته بشكل مختلف، ويرسله إلى مستشفى آخر بحجّة عدم توافر أماكن أو عددٍ كافٍ من الموظّفين، أو عدم توافر المعدّات المناسبة. فيلم بتجربة فريدة، بحيث يبدو كأن الأحداث تحدث أمام عيوننا فعلاً، كأننا نشاهد حدثاً مباشراً، من وراء طريقة التصوير، السيناريو، والأهم من ذلك التمثيل. على الرغم من قصته الدرامية، فالفيلم مليء بالكوميديا السوداء، وخاصة من السيد لازاراسكو الذي يتمتّع بحسّ فكاهة عالٍ حتى وهو في أصعب الحالات. تجد نفسك تضحك في الأوقات الحرجة. الفيلم يمكن أن يُفسّر على أنّه نقد للمؤسّسات الطبية الرومانيّة، لكنه أكبر من ذلك، فهو نظرة إلى المعاناة الإنسانية مع المستشفيات التي تحصل في جميع أنحاء العالم. أما الفيلم الثاني فهو «سيرانيفادا» (2016) الذي يقارب اجتماعاً عائلياً كبيراً في بوخارست لتناول العشاء كجزء من التقاليد الأرثوذكسية. لكن المناسبة لا تمرّ على خير، إذ سرعان ما تتدرّج من عشاء عائلي إلى حفلة مشحونة بل محتدمة إلى حدّ تصفية الحسابات الشخصية. كابوس جميل. ما يقارب ثلاث ساعات، مصوّر كله تقريباً داخل شقة صغيرة، مع أكثر من 10 شخصيات في الوقت نفسه. جو كارثي وخانق، تشعر بأنك تريد أن تصرخ في وجه الجميع ليهدأوا قليلاً. سيناريو ممتاز مع تفاصيل كثيرة لا يمكن إغماض العين ولو قليلًا. كثير من المشاكل، كثير من الحوارات، كثير من التقلّبات. مشاكل سياسية عالمية تُحلّ وتناقش. الهجمة الإرهابية على مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، هجمات 11 سبتمبر، وغير ذلك من القضايا العالمية والشخصية. أجيال وأعمار مختلفة وصراعات ثقافية، فكل شخص يفسر المؤامرات على طريقته، كل هذا وأكثر في حوارات طويلة ومشاهد أطول. على غرار فيلم «وفاة السيد لازاراسكو»، تشعر كأنك معهم وواحد منهم من خلال طريقة التصوير التي يعتمدها بويو في أفلامه، فالكاميرا ترقص وتتحرك بين الشخصيات وعلى مستوى نظرهم. «سيرانيفادا» جميل، أصيل وواقعي.