إن فكرة الحياة البدوية هي في الحقيقة أصل الأمة. الرواد الذين شكّلوا ما يعرف الآن بالولايات المتحدة الأميركية هم رحّل. رحلة مستوطنين عبروا الأراضي، واكتشفوها بحثاً عن الأحلام والرخاء. ثم بعد ذلك، جاء رحّل أو حالمون جدد، مثل الروائي الاشتراكي جاك لندن ومثله التحررية، الذي كان يرى أن الصراع بين الطبقة العاملة والرأسماليين لا بدّ منه، وأنّ الطبيعة والجبال هي الواهبة للسعادة، وربط التجوال بتحقيق التحرر الشخصي. وبعده جاء جاك كيرواك وثقافة «البيت» الذين وجدوا طريقهم نحو الإبداع والحياة السعيدة «على الطريق». مع القرن الحادي والعشرين، لا يزال الرحّل يشكلون مجتمعات ولكن أقلّ رواجاً. بدأ البدو الجدد في الولايات المتحدة من قلب النظام الرأسمالي، في السير على الطريق، على أمل إيجاد مكان هادئ للاستقرار. إنهم يحاولون تنظيم أنفسهم، لتأسيس مجتمع صغير مواز يوفر للجميع ما يحتاجون إليه. يتاجرون بالأشياء ويتبادلون النصائح، ويدعمون بعضهم معنوياً. يشكلون مجتمعاً لا توحده مصالح اقتصادية أو سياسية، بل التضامن الإنساني الحقيقي. عائلة حقيقية، مختلفة، ينظمها بعض المرشدين لإعادة الروابط والتعامل مع الأوقات الصعبة. في كتاب «أرض الرحّل: البقاء على قيد الحياة في أميركا القرن الحادي والعشرين»، درست الصحافية جيسيكا برودر ظاهرة المجتمع المتجوّل الجديد، المكوّن أساساً من العمال، الكبيرين في السن (جيل الستينيات والسبعينيات) الذين فقدوا رزقهم وممتلكاتهم في الركود الكبير الذي ضرب الولايات المتحدة الأميركية بين عامَي 2007 و2009. ومن الكتاب وصلنا إلى فيلم «أرض الرحل» للمخرجة الصينية المولد كلوي تشاو الذي تُوّج بـ«الأسد الذهبي» أول من أمس.فيلم تشاو الجديد (الثالث في مسيرتها) مزيج وثائقي وخيالي، يجمع على الشاشة ممثلة هوليوودية وممثلين غير محترفين. هم رحّل حقيقيون قدّموا من خلال الفيلم شهادات عن كيف سمحت لهم الحياة على الطريق بتفادي الديون والنزعة الاستهلاكية والبطالة. تبني تشاو قصة خيالية تعطي فيها الحياة لفيرن (فرانسيس ماكنورماند) الأرملة والمعلمة السابقة التي أُجبرت على الانطلاق على الطريق بعد الاختفاء الفعلي لمدينتها، (إمباير في ولاية نيفادا) ومسحها من على الخريطة، وإلغاء رمزها البريدي، بعد إغلاق المصنع. فيرن هي آخر المقيمين في مدينة الأشباح، تكدس بعض ممتلكاتها في شاحنة صغيرة وتذهب. تصبح الشاحنة بيتها، وتقفز من وظيفة إلى أخرى مع وجه الخسارة على وجهها، ولكن من دون الوقوع في اليأس. خلال الطريق، الأشخاص الذين تلتقي بهم فيرن هم رحّل حقيقيون، يصبحون مرشدين لها، مثل ليندا ماي التي تتحدث مع فيرن عن المجتمع البدوي وتقول: «إنه من الممكن العيش بمشاركة ما هو ضروري ودعم بعضنا بعضاً عاطفياً».
ثلاثة مرشدين تلتقي بهم فيرن، بالإضافة إلى الشخصية الخيالية الأخرى (ديفيد ستارثيرن) وهو زميل بدوي. مجموعة من الأشخاص يرافقونها على طول الطريق بشكل متقطّع. هؤلاء ينطقون بحقيقة واضحة عن ركيزة «أرض الرحّل». عندما تلتقي بمرشدها، تقول: «أنا لست شخصاً بلا مأوى، أنا فقط ليس لديّ منزل». وعندما تلتقي بمرشد آخر هو بوب، يعلّمها كيفية العيش في سيارة أو شاحنة صغيرة أو عربة متنقّلة، والخروج من الديون والسفر لتجد الحرية الحقيقية. بغضّ النظر عن مدى تأكيدها بأنّها تحب هذه الحياة الجديدة، وتقول إنّ كل شيء على ما يرام، فإنها تحلم أحياناً بالاستمتاع مرة أخرى بسرير حقيقي، أو منزل دافئ، أو حياة أسرية مع بناتها، أختها أو هذا البدوي التي تعرفت إليه. لقد أوشكت على الانهيار في عدة مناسبات، ولكنها اختارت الحفاظ على حريتها. ربما بسبب فخرها وكرامتها ورفضها السماح لأحد بمساعدتها، أو لأنها لا تستطيع التصالح مع حياتها السابقة. هذه الشاحنة التي اختارتها بيتاً، هي بمثابة مساحة بانورامية لا نهاية لها، عالم واسع عليها احتلاله.
الفيلم تجربة عاطفية غير عادية، قالتها ماكنورماند خلال المؤتمر الصحافي: «لم تكن الأولوية التفكير في الفيلم، بل تكريم حياة الأشخاص الذين كنّا نصوّهم». هذه ليست المرة الأولى التي تصنع كلوي تشاو شريطاً هجيناً مماثلاً. قامت بذلك في فيلمَيها السابقين. تعري تشاو الفيلم، تراهن على تقشّف واضح وسرد شبه شفّاف. في «أرض الرحل»، لا توجد قصة بالمعنى التقليدي. المواقف التي تمر بها فيرن، الأماكن التي تزورها، الأشخاص الذين تلتقي بهم، عواطفها، تجاربها، ذكرياتها التي تعتدي عليها... تعطي شكلاً لسرد خفيف وجذاب، بخطاب بسيط وتقليدي، وروح ثقافية جغرافية وانثروبولوجية. مغامرة تعزز الاستقلال، وتحثّ على التواصل مع الطبيعة. تواضع الفيلم يرفعه، وفريقه المكوّن من 25 شخصاً فقط، سافروا لمدة خمسة أشهر عبر سبع ولايات مختلفة، كل ذلك سمح للارتجال والاندماج الكامل في المجتمع البدوي.
تخلق ماكنورماند (بأداء عظيم، الأفضل في مسيرتها)، شخصية نسوية رائعة وحزينة. النزاهة والصدق هما صفتاها الرئيسَتان. ينضم إليها بشر يجمعهم رفض العالم الذي يستهلك فقط، هروبهم هو من الاستغلال الذاتي الذي يستهلكنا. مسافرون تمكنوا من دحض فكرة المجتمع بأسره، وعوّضوا عنها بحركة أبدية. «نراكم على طول الطريق» هذه هي الجملة التي نسمعها كثيراً في الفيلم. لا أحد يودّع أحداً، ولا أحد يرحب بأحد، البدو دائماً على الطريق، يلتقون مرة أخرى، بعد شهر، بعد عام أو ربما أكثر. يعدّ «أرض الرحّل» رحلة إلى أميركا بعيداً عن التصنّع والزيف والأزمة الاقتصادية، بين أشخاص خائفين ولكنهم متأمّلون. يروي الهشاشة والاضطرابات في الحياة اليومية للعديد من الأشخاص في العمق الأميركي، الذين انتخبوا ترامب! (ما زالوا يؤمنون به؟). البدو المتنقلون بألف مورد، قادرون على التعافي من دون فقدان الأمل، يبنون هيكل دعم، أسرة متنقلة يقوي بعضُها بعضاً. أفق طريقهم ليس مستقيماً، يستمر دائماً في إغرائنا ويدفعنا لاتباعه.
الشريط الذي نال الأسد الذهبي لأفضل فيلم، مزيج وثائقي وخيالي


في أفلامها السابقة، كانت المخرجة الصينية تتساءل عن كيفية التخلص من الحدود. في أيديولوجيتها، الحدود ليست جداراً فاصلاً، بل نافذة على العالم، وشكل من أشكال المعرفة. فيلمها الجديد هو عن هذه الحدود التي تفتح إلى آفاق جديدة. فيلم رقيق، يولّد شعوراً بالحرية ولو أنّنا مكبّلون على كرسي. الفيلم هو بحد ذاته رحلة، ولا شيء آخر. تلاحق الكاميرا فيرن ورفاقها، الذين تظهر في عيونهم عجائب الغرب الأميركي المتوحّش، حيث يتحركون.
«أرض الرحّل» هو شبح الرأسمالية. ظلّ حلم لم يتحقق. صورة مليئة بالفرص التي تبدّدت. تعزز فيه تشاو الارتباط بين الإنسان والطبيعة. استعملت العديد من اللقطات المقرّبة لوجوه الرحل وشخصيتها الخيالية لتصنع فسيفساء عن الحياة اليومية للذين لفظهم النظام العالمي. فيلم ويسترن من دون أسلحة، شخصياته من أصحاب البشرة البيضاء، ولكن يمكن أن يكونوا «هنوداً». يجدون هدوءهم في الطبيعة وحول النار، تطاردهم الذكريات التي تصبح وعياً جماعياً. لا تسعى كلوي إلى تمجيد حياة البدو الرحّل، بل تتبنى وجهة نظر فيرن فقط، التي تفضل أن ترى نفسها حرة، على أن تكون مقيّدة بالسلاسل. فخورة لا يائسة. غنية روحياً على أن تكون فقيرة اقتصادياً. يمنح الفيلم البشر كرامتهم ومكانهم في العالم، يوحّدهم بدفء الإنسانية ضد نظام رأسمالي بارد لا يرحم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا