في هذا الوقت الذي يبدو فيه أنّ السينما فقدت الكثير من الأفلام المستفزة والمثيرة للأحاسيس وللجدل تحت شعار «الصوابية السياسية» الذي تعزو الفن بشكل عام، نعود 50 سنة إلى الوراء، وتحديداً إلى تحفة ستانلي كوبرك «كلوكورك أورنج» (1971). فيلم مليء بالنقد الثقافي والإجتماعي: المرأة كشخصية الأم التي تتحد مع المرأة كشيء جنسي. هيمنة الرموز القضيبية على المجتمع. عالم كريه الرائحة خالٍ من أي إنضباط أو نظام. الموسيقى والجنس والعنف كفن. مجتمع أوديب وفرويد وفضول المتلصّص. طهرانيّة المسيح وشهوة الجسد. تعريف الطبيعي والجنون. مجتمع مريض كمعرض فنّي. الشخص المثالي الذي خلقته يد الإنسان. توبة الخير والشر. على مدى خمسين عاماً، لا يزال فيلم كوبرك مليئاً بهجاء إجتماعي حول مسألة ما إذا كان للدولة والمجتمع الحق في مكافحة العنف الإجرامي من خلال حرمان «مرتكب العنف» من إرادته الحرة. نقد السلطة كقوة توتاليتارية قمعية. من هو الجلاد؟ ومن هو الضحية؟ مع تبديل التسميات لإظهار عدم جدواها.يجرّد كوبرك المجتمع من إنسانيته، ويركز كما دائماً على مسألة العنف، ولكن ليس بالمعنى الأخلاقي ولكن كسؤال عن نشأته ودوره. يستمتع أليكس (مالكوم ماكدويل) وأصدقاؤه في لندن بإرتكاب جميع أنواع الجرائم والآثام : ضرب متسول عجوز، إغتصاب، إقتحام منازل... ذات ليلة، بعد إحدى «مآثره»، يتم القبض على أليكس وسجنه وإخضاعه لعلاج جديد يقمع ظمأه للعنف، ويخرج بعدها إنساناً جديداً.
عناصر حسية، ساخرة، جنسية، فكاهية وجوانب موسيقية مليئة بالزخارف ولقطات بصرية موحية


الفيلم المقتبس من رواية أنتوني بورغس بالعنوان نفسه (1962)، مخلص للرواية. النص الذي لا يخلو من الجدل، على الرغم من الإختلاف في مفهوم «الأخلاق» بين العملين الأدبي والسينمائي. الرواية التي تتكون من 21 فصلاً، أبصرت النور في أوروبا، فيما استغنت طبعة أميركا الشمالية عن الفصل الأخير، الذي يظهر تحولاً جذرياً في سلوك أليكس ودعوةً للتكامل الإجتماعي ونبذ العنف. أما كوبرك، فقد تجاهل الفصل الأخير والنهاية السعيدة التي صوّرها بورغس، فاستحال الفيلم داعي بؤس واضحاً ومحصناً من أي أمل. يحكي كوبرك عن مستقبل متشائم، غارق في العنف بعناصر حسية، ساخرة، جنسية، فكاهية وبجوانب موسيقية جمالية مليئة بالزخارف الجذابة واللقطات البصرية الموحية.
في الفيلم مناخ من عدم الإهتمام الإجتماعي والأنانية، مجتمع يتميز بالألوان الزاهية اللاذعة والأثاث الكلاسيكي البلاستيكي والفن المعاصر والغرف الباردة. صوّر كوبرك المشاهد العنيفة والإغتصاب ببراعة مثل رقصة باليه تتخللها موسيقى كلاسيكية وأغنيات عاطفية تسهم في انحراف الحدث. صوّر حياة أليكس كسمفونيةٍ من العنف والجنس. وبعدها ينقلب الفيلم عند إلقاء القبض على أليكس ويبدأ غسيل الدماغ الطوعي. عندها يطلب أليكس الشفاء، يمسك أعضاءه التناسلية ويهرب من كل شيء، يتجرد من كل شيء حتى مشاعره الإنسانية الفطرية الطبيعية ليكون فرداً صالحاً في المجتمع. يخرج أمام اللجنة مع تاج من الشوك (إحالة إلى المسيح المصلوب) ويحدق كما لو كان ميتاً بعين واسعة في الشاشة، مما يوضح كل عنف التاريخ والمجتمع.
قتلت التجربة إرادة أليكس الحرة، وطرحت السؤال: هل الشرطة والسجن موجودان فقط لأنّ العنف موجود أو العكس؟ في «كلوكورك أورنج»، الإجرام والسلطة وجهان لعملة واحدة، يتماهى معهما المجتمع أيضاً. «كلوكورك أورنج» صرخة ضد عواقب وظروف التنوير، ضد كل ما يسمى «الإنضباط الإجتماعي»، ضد «السجن» الذي وصفه فوكو، كقيود للإحتياجات العاطفية الطبيعية.