أفريقيا هي أرض الثورات السياسية، والنضال من أجل الاستقلال، والحروب القبلية. وإذا كانت سينما السنغالي عثمان سيمبين، علّمتنا أنّ الهوية الفردية في تلك القارة، تتكوّن من الصمت والعزلة على خلفية الاضطرابات السياسية الكبيرة، وأنّ الصحراء هي حلقة الوصل بين الإنسان والأفق، الذي يتّسع ويعمي البصر وتنطفئ فيه آمال المستقبل تدريجاً... فإنّ سينما التشادي محمد صالح هارون، هي سينما ذات دقّة عميقة وفهم إنساني. إنها السينما السياسية الأكثر هدوءاً ويأساً. في ركودها، تتّضح أزمات الفرد الوجودية. سطح هادئ مخادع وكاذب تدحضه توتّرات متصاعدة من الغضب والكآبة، بينما يؤرّخ المخرج الصراع السياسي المستمر في بلاده، الغنيّة ثقافياً وحضارياً، من خلال قصص أشخاص عاديّين يواجهون خيارات أخلاقية مؤلمة. من هذه الإشكاليات، يتوسّع ليُقارب التفكير الاستعماري والسياسي في بلده التشاد. على الرغم من أنّ هارون ملقّب بـ «إيراني السينما الأفريقية»، وأفلامه تقارن بسينما عباس كيارستمي ومحسن مخملباف بسبب أسطحتها الهادئة المخادعة، إلّا أنه ينتمي بشكل أساسي إلى تقليد أفريقي في صناعة الأفلام يمتد من عثمان سيمبين مروراً بالموريتاني عبد الرحمن سيساكو، وصولاً إلى السينما الأفريقية ما بعد الاستعمار.
محمد صالح هارون، ضيف دائم على «مهرجان كان السينمائي». في عام 2010، حصد جائزة التحكيم عن فيلمه «رجل يصرخ» الذي طُرح أخيراً على منصّة MUBI. فيلم يروي بحميمية صادقة قصة خراب بلد ورجل. قصة أب وابنه. آدم عثمان (يوسف دجاورو) الملقب بالبطل، أب عاش من السباحة التي جعلته رياضياً مشهوراً في أنحاء البلاد. اليوم، يعمل كمدرّب ومسؤول عن بركة السباحة في فندق فخم. يبدأ الصراع مع الاضطرابات السياسية والأمنية التي تهزّ البلاد، وقرار مديرة الفندق الجديدة بنقل آدم ليُصبح حارس البوابة، وتعيين ابنه عبدول عثمان (ديواك كوما) مكانه. القسوة البيئية لبلد في أزمة أبدية، والخوف على وظيفة على وشك أن يخسرها، يدفعان آدم لاتخاذ قرار مصيري.
الحرب عمّت الأرجاء كلها، صوت الطائرات يُسمع فوق الرؤوس، أخبار الإذاعة تتعلّق فقط بالمقاتلين القادمين وباللاجئين الفارين إلى بلاد مجاورة. هارون غير مهتم بمشاهدة الحرب الكبيرة. هو فقط مهتم باستحضار التفاصيل الصغيرة. يفعل ذلك بنبرة خافتة، بصرخة يكتمها رجل ناضج اتخذ قراراً سيئاً. رجل يصرخ داخل نفسه، منغلق تماماً يلتهمه الشعور بالذنب حرفياً، ولا شيء واضحاً على وجهه، تماماً كالحرب التي نشعر بها في الفيلم عبر الضوضاء فقط. كما لو أنّها تظهر لنا الحالة المروعة لشعب اضطر منذ فترة طويلة لعدم الصراخ لأنه عاجز عن الرد وإنهاء كل هذا البؤس. كل طريق مسدود، المسلك الوحيد المفتوح هو الهاوية. آدم والآخرون ليس لديهم أسلحة، لكنّهم يقاتلون أنفسهم بحزن شديد. صرخة آدم مصيرها أن تظل غير مسموعة، لأنها مخنوقة من الداخل. هارون ابتكر سينما داخلية، إيقاعاتها تتناغم مع الصمت وتدعونا لسماع ذلك الصوت الذي يولد كصرخة كريمة وهادئة، لكن بعد ذلك، يتحوّل تدريجاً إلى يأس لا يمكن السيطرة عليه. «رجل يصرخ» هو صورة الرجل الذي وجد نفسه الجاني الوحيد في بيئة من الأبرياء، خالف القوانين، لذلك هو يصرخ، بعد فوات الأوان، على فداحة خطئه.
سينما ذات دقة عميقة وفهم إنساني


ميزة فيلم هارون هي الدقة التي يجلب بها العاطفة إلى الشاشة. يطلب منّا الصبر لنرى تطوّر القصة والتغيير التدريجي للشخصيات. لا نشاهد الصراعات والهموم والاحتياجات الوجودية بشكل مباشر، لكنها تنعكس على العيون لوهلة أو ثانية. هذا ما يجعلنا متلصّصين على قصة الأب وابنه التي تمس المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في بلاده. «رجل يصرخ» فيلم مؤلم، وفي النهاية يتركنا هارون مع جملة «شاعر الزنجية» إيمي سيزير: «الرجل الذي يصرخ ألماً، ليس دباً يرقص». كما في أفلامه كلها، رفض هارون تصوير البلاد وبؤسها بطريقة مباشرة، لأن الفقر والوحشية والموت بالنسبة إليه، ليست ألعاباً في سيرك!

* A Screaming Man على MUBI