عاشت بيروت فترة قاسية جداً في السنوات الأخيرة، تكاد تكون بقسوة الحرب الأهلية. ومن أقسى ما حدث هو انفجار المرفأ في 4 آب (أغسطس) 2020، حين انفجرت المدينة بحجرها وبشرها، في انفجار وُصف بأحد أعنف الانفجارات عبر التاريخ. بعد هذه الكارثة، ظهرت موجة فنية تناولت الانفجار كثيمة أساسية، وأنتجت عدداً كبيراً من الأعمال الفنية التي وثّقت الحدث في الدرجة الأولى، لكن أغلبها لم يكن بجودة فنية عالية. اعتمد بعضها على الموضوعَة فقط، لينتج قراءات فنية تكاد تكون غير مناسبة لهذا الموضوع الحسّاس والمؤثّر، وبعض الأعمال قدّمت رؤى فنية مختلفة، جعلتنا نرى ما حدث بعيون جديدة وغريبة مختلفة عما رأيناه في نشرات الأخبار. وهناك بعض الأعمال التي قدّمت رؤية واضحة وحقيقية للحدث، لم تتصف بصناعة فنية مختلفة أو جديدة.من أهم الأنواع الفنية التي تناولت الانفجار، السينما الوثائقية التي لا تزال تُنتج إلى اليوم أعمالاً ترصد ضخامة الحدث في تاريخ المدينة وأثره الكبير على ذوات سكانها.
المخرجة الإسبانية اللبنانية فاديا أحمد ترصد في شريطها الوثائقي Beirut, The Aftermath (45 د ــــ إنتاج 2022) بيروت بعد الانفجار، عبر تصوير دمار المدينة وأثر هذا الدمار في قصص بعض الناس الذين خسروا كثيراً بسببه.
ينقسم السرد في الفيلم ما بين صوت الراوية، وبين الأشخاص الذين يروون قصصهم الخاصة. تخبر الراوية قصة المخرجة وعلاقتها المعقّدة بالمدينة وبحثها عن ذاتها، منذ سفرها وهي طفلة عقب الحرب الأهلية، وشوقها إليها وخيالاتها عنها، ومن ثم عودتها إلى المدينة وتكوين رؤيتها الخاصة التي تختلف عن خيالاتها السابقة، لكن حبها للمدينة بقي كما هو، إلى أن جاء الانفجار وغيّر كل شيء وجعلها تعود للبحث عن ذاتها بين أنقاض المدينة وقصص الخراب في ذوات الناس.
تتنوّع قصص الناس بين لبنانيين وأجانب، شباب وكبار، مع تصوير قصص من فوج الإطفاء، ومع خصوصية كل تجربة وتفرّدها عن الأخرى. إلا أن الخسارة كانت القاسم المشترك بينها، ووجود تشوّه وعطب لا يزول في ذوات الناس. نراه في عيونهم وهم يخبرون قصصهم، وهم يحاولون أن يمسكوا دموعهم.
يقدم الفيلم صورة متناقضة للمدينة، من خلال نص الراوية الذي يقدمها بصورة رقيقة، وبين قصص الناس التي تقدم المدينة بصورة قاسية. لكن تغلب على نصّ الراوية، الكليشيهات والجمل الجاهزة عن حب بيروت وسحرها ومظلوميتها، فظهرت المدينة كضحية مبالغ في ظلمها بطريقة مبتذلة بعض الشيء، فلم يحمل النص أي خصوصية سردية مع أنه كان يخبر قصة المخرجة الذاتية، لكن تم إقحام ذاتية المخرجة في موضوعة الفيلم، ولم تظهر رحلة بحثها الخاصة عن ذاتها في قصص الناس، بل كان الفيلم مقسوماً إلى قسمين غير متجانسين. كما أن الموسيقى المختارة للفيلم، ساعدت في تعزيز صورة الضحية المبالغ بها، فقصص الناس لم تكن بحاجة إلى موسيقى مؤثرة بشكل مباشر كي تؤثر في المتلقّي.
جمل جاهزة عن حبّ المدينة وسحرها ومظلوميتها


لعل تناقض المدينة هو الحقيقة الكبرى التي نعيشها اليوم، لكنّ الفيلم لم يقدّم رؤية موضوعية لهذا التناقض يجعلنا نفهمه أو ندركه، كي نفهم ماهية علاقتنا بالمدينة، إنما ظهر التناقض في صناعة الفيلم ذاته.
ينتهي الفيلم بجرعة أمل عبر تصوير منظمات المجتمع المدني وهي تحاول إزالة آثار الدمار، ومع جمل الراوية الجاهزة والمبتذلة عن الأمل. جمل لم تكن مؤثرة بشكل متواز مع القسوة التي رأيناها في وجوه الناس وشوارع المدينة، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن ثنائية الأمل واليأس، وطريقة تصويرها في الأعمال الفنية، باقتران تصوير الأمل مع الواجب. فهذا يُظهر أملاً كاذباً واهماً وغير حقيقي أمام يأس المدينة وناسها، الذي يجب أن يُعاش بطريقة أو أخرى لكي يدفعنا إلى التعافي والتصالح والوعي.

* Beirut, The Aftermath في صالات «غراند سينما»