بدأ «مِهرجان عمّان السينمائيّ الدوليّ ــ أوَّل فيلم»، بتحية كبيرة للمخرج والممثل السوري الراحل حاتم علي (1962-2020). هكذا، خيّم طيفه على انطلاقة المهرجان. إذ افتتح «سلام الشيكولاتة» (2021) للمخرج الكندي جوناثان كيسر، فعاليات المهرجان الذي انطلق يوم الأربعاء الماضي ويُختتم بعد غد. الشريط الذي أدّى بطولته حاتم علي، والممثلة يارا صبري، وأيهم أبو عمار، ومارك كاماتشو، أغرق ليلة الافتتاح بالشوكولا والحب والسلام والمشاعر الحميمة والغربة والهجرة. يرتكز العمل إلى قصة حقيقية حول عائلة سورية هاجرت إلى كندا خلال الحرب بعدما تدمّر معمل الشوكولا الخاص بها. ومع إصرار طارق حداد (حاتم علي) على البدء من جديد ببناء معمل للشوكولا في كندا، تبدأ معاناة العائلة الداخلية وصراعها في الغربة، خصوصاً عندما يأخذ الابن مساراً مختلفاً لتحقيق حلمه بأن يصبح طبيباً. كان يمكن للفيلم أن يكون من الأعمال التي تمنحك شعوراً جيداً ولو قدمت بطريقة سطحية، لكن حتى الشعور الجيد لم يقدمه. أخطأَ المخرج في كل شيء، فتحول الفيلم من قصة حقيقية ملهمة إلى مجرد دراما بسيطة مليئة بالخطابات والمواعظ حول الكفاح والعمل وتحقيق الأحلام. في أحسن أحواله، يمكن تشبيه العمل بإحدى حلقات «تيد تولكس»، لا تسمن ولا تغني من جوع.
«خذني إلى السينما» للمخرج العراقي الباقر جعفر

مع بداية النهار الثاني، بدأت الأفلام الأولى للمخرجين تتدفّق علينا من كل الجهات. عروض متنوّعة في مواقع مختلفة تحار فيها كيف يمكن التوفيق بمشاهدة كل هذه الأفلام. شاهدنا مثلاً «خذني إلى السينما» حيث المخرج العراقي الشاب الباقر جعفر يذهب في رحلة مع الروائي والجندي السابق، نصيف فلك. تكاد قصة الروائي فلك أن تكرر نفسها لتطابق قصة المخرج نفسها، فيقابل جعفر فلكاً الذي كانت السينما ملاذه خلال الحرب العراقية الإيرانية عام 1980. يتأثر فلك بأحد الأفلام التي شاهدها («بابل»/ 1973) ويحلم بأن يصبح ممثلاً مثل ستيف ماكوين.
يبحث جعفر وفلك عن الفيلم الذي رسم حلم فلك في عراق أضنته الحرب. تترك الرحلة جعفر ضائعاً: هل يقرر البقاء في بغداد أم الرحيل لتحقيق حلمه؟ «خذني إلى السينما» يكتنف حميميةً تكفي لتغطي مساحة العراق كلها. ولا نقصد هنا بالحميمية السطحية، بل تلك التي تترافق مع الكثير من الأسئلة: ماذا حدث لأحلام الأجيال السابقة في العراق؟ ماذا حدث لراحتها؟ هل انتهى كل شيء؟ أم ما زال بإمكانها تحقيق تطلّعاتها؟ أيضاً، يجعلك الفيلم تتساءل عن مستقبل صناعة السينما في العراق، خصوصاً لجيل التسعينيات، وكيف تتكرر دورة الحياة مع القضايا نفسها التي تواجهها الأجيال المختلفة. بمزيج من الدراما والخيال والحقيقة الوثائقية، تمكّن الباقر من أخذنا في جولة إلى العراق الذي نجهله، إلى العراق الذي يشتاق إليه الجيل القديم والجديد، وفي الوقت نفسه يحاول الهروب منه. في «خذني إلى السينما»، ليس هناك مكان للكذب. فيلم ينبع فيه الصدق من عيون شخصياته إلى درجة الألم. إنّه الصدق نفسه الذي تلمّسناه في شريط «سولا» للجزائري صلاح إسعاد.

«سولا» عمل أول جميل وخام


افتتح «سلام الشيكولاتة» فعاليات المهرجان

يروي الفيلم قصة سولا (سولا بحري) الأم الشابة والعزباء التي تُطرد من بيت العائلة باسم «الشرف». ونظراً إلى عدم وجود مكان تذهب إليه عندما يطردها والدها من المنزل، تطلب سولا المساعدة من العديد من الأصدقاء والأقارب. بينما تشرع في رحلة مضطربة مدتها 14 ساعة، يكون هدف سولا الوحيد تجنيب ابنتها الرضيعة آلامها وصراعاتها. لكن كل شيء وكل من حولها يمثل تهديداً محتملاً، وغالباً ما يكون الخط ضبابياً لأولئك الذين يريدون مساعدتها، وأولئك الذين يسحبونها إلى دوامة العنف. تتنقل الشابة من مدينة باتنة إلى عنابة وتقفز من سيارة إلى أخرى، متأرجحة بين لحظات من السكون واللهو مع الأصدقاء، ولحظات من القلق الشديد والعزلة. على خلفية من المناظر الطبيعية الهادئة، في رحلة طريق بائسة ومثيرة، تتجه سولا نحو مصيرها الحتمي. منذ البداية، يبرز خيار المخرج الخاص في طريقة تقديم عمله. فيلم طريق صُوِّر بالكامل في السيارة، ما يعني أنه بغض النظر عما يحدث، فإن الكاميرا (تقريباً) لا تترك السيارة أبداً وتتحرك مع سولا طوال الوقت. خيار موفّق سمح لنا بعدم فصل أنفسنا عن الشخصيات التي تتبع بعضها البعض، أحياناً بطريقة مقزّزة تقريباً، وتزيد وحشية لحظات معيّنة من خلال سرد خام وواقعي. كل شيء صريح في الفيلم، لا يترك سوى القليل من الخيال. كل شيء يتشابك ولا مخرج من السيارات والطرقات. رعب جسدي ونفسي وضعنا به المخرج طوال مدة الفيلم، وأغرقنا في عالم سولا العنيف التي تحاول حماية ابنتها، لكنها تتخذ قرارات متهوّرة وتصبح ضحية الأحداث. الفيلم مبنيّ على قصة سولا بحري الحقيقية، نرى قصتها من داخل مقصورات القيادة، وهي محاصرة بالمقاعد والنوافذ وعنف الرجال. خانق فيلم إسعاد، كل شيء فيه يحدث في مسافة تبعد سنتيمترات، ولكن موضوعه كبير يتغلغل في المجتمع الجزائري بأكمله. «سولا» عمل أول جميل وخام، ينتهي بنهاية خيالية سهلة. كل الصعوبة التي عاناها المخرج والممثلة في الفيلم، أنهاها باستسهال. جعلنا نتمنى لو أننا لم نشاهد آخر 15 دقيقة من الفيلم. تركنا محبوسين مع سولا والسيارات والشوارع، نتمنى نهاية سعيدة لها ولابنتها.
«خذني إلى السينما» يكتنف حميميةً تغطي مساحة العراق كلها


كل هذه الواقعية في «خذني إلى السينما» و«سولا»، اكتملت مع فيلم «سعاد» للمخرجة المصرية ايتن عامر، لكن واقعية «سعاد» فيها شيء زائف. هذه القصة التي يُفترض أن تكون مدمّرة إلى حد ما، روِيت بسرد رقيق ولطيف. سعاد (بسنت أحمد)، التي تبلغ 19 عاماً تعيش في منزل أسرتها المحافظة في الزقازيق في مصر، كما تعيش في وسائل التواصل الاجتماعي. لسعاد حياتان يملؤهما الكذب. علاقتها الافتراضية السرية وعلاقتها بعائلتها وأصدقائها في الحياة الواقعية أوصلتها إلى حدث مأساوي، ما يدفع شقيقتها رباب (بسملة الغيش) إلى القيام برحلة بحثاً عن بعض الإجابات. معروف تماماً التناقض في المجتمعات المحافظة، والبديل الذي توفره شبكات التواصل الاجتماعي التي تمنح بعضاً من الحرية المفقودة في الواقع. يعالج «سعاد» فكرة استخدام شبكات التواصل الاجتماعي كمتنفّس من مجتمع محافظ، بطريقة سرد مثقلة (رغم لطافتها الشديدة) بالاقتراحات والأفكار التي تريد عامر أن توصلها إلينا بدون عناء استخدام الكاميرا أو الحوارات أو حتى التمثيل. الكاميرا المحمولة التي تلاحق الممثلين والحوارات السطحية، لا توصلنا إلى عمق المأساة. عدلت عامر قصتها الدرامية مرات عدة وضاعت في طياتها، ما أفقد الفيلم التوازن الذي بدأ به. قدمت نوعاً من الواقعية حشت فيه أحداثاً موجودة بالفعل في الحياة، لكنها قدمتها بطريقة زائفة، فقط لإعطاء الفيلم شيئاً من التحرر البائت، وأنهته بطريقة عنيفة. بدأت الجزء الثاني بطريقة رومانسية فضفاضة، ما شوّه الصورة التي بدأت بها وحتى الطريق المرسوم للنهاية.