تسببت الصعوبات الإنتاجية التي يعانيها السينمائيون في لبنان في تأخير صدور فيلم كمون الثاني «بيروت هولدم» لسنوات. إذ يعود فيلمه الروائي الطويل الأول «فلافل» إلى عام 2006. لم يكن المخرج «في نزهة» طوال هذه المدة كما يقول ممازحاً، بل عمل على أفلام قصيرة، وكان يحارب لإنجاز شريطه الطويل. فأكبر الصعوبات التي واجهته خلال إنجاز هذا الفيلم هي التمويل. وبعد مرور سنوات على كتابة السيناريو، تمكّن من إنتاجه أخيراً. لا يحبّ كمّون التذمّر، لكن هذا هو الواقع الذي يفرض نفسه على كل من يسعى إلى العمل في المجال السينمائي في لبنان: «أكتب السيناريوات في انتظار اللحظة. كان من المفترض أن أصدر أربعة أفلام حتى اليوم». باختصار، نتابع في «بيروت هولدم» الذي يطرح الخميس المقبل في الصالات، قصة زيكو (صالح بكري) وأصدقاء طفولته في أحياء بيروت ‏الشعبية. خرج الرجل الأربعيني للتو من السجن، محاولاً إعادة بناء حياته واستعادة حبيبته كارول (رنا علم الدين) بعدما أصبح مفلساً وخسر شقيقه في حادث سباق. من دون كشف التفاصيل، سيواجه زيكو سلسلة من الخيبات والمآسي التي لا مفرّ منها في ظلّ السوداوية التي تلفّ ظروف معيشته في بيروت. برغم ذلك، ليس الفيلم سوداوياً مئة في المئة. في هذا الصدد، يعلّق كمون في حديث معنا: «المجتمع الذي نعيش فيه مصنوع من تناقضات والحياة أيضاً. لذا لا يشبه أي يوم الآخر، كما لا يتشابه مصير أي شخص ومصير آخر. فنطرح على أنفسنا السؤال إن كانت الحياة جديرة بأن نعيشها. في النهاية هي الحياة اليومية والاستمرارية. بصيص الأمل والابتسامة هما ما يعطيان للحياة معنى ويجعلاننا نشعر بأنها تستحق أن نعيشها عموماً، وهذا لا ينطوي على الشخصيات في الفيلم فحسب. فهي نتيجة مراقبتي. أنا أراقب مجتمعنا وثم أعكسه كما آراه في أفلامي. عندما أكتب العمل، أفعل ذلك كما أرى الأمور وأشعر بها من دون جهد. حياتنا مصنوعة من هذه التناقضات. فنحن نضحك على الدراما وعلى مشكلاتنا».




يقرّ كمّون من جهة أخرى أن الفيلم يأتي غالباً من هاجس ما لديه: «الوحي هو دائماً مزيج من أشياء. الأفكار تأتي يومياً باستمرار. لكن لكي تتحوّل الفكرة فيلماً، نحتاج إلى شغف كبير وهوس للاستمرار. لسنا في بلد حيث الإنتاج السينمائي غزير ونمتلك ترف إنجاز فيلم كل ستة أشهر. على السينمائي أن يتحلى بالرغبة الكافية لإنجاز الفيلم هنا. فمزيج الرغبات والهواجس جعلني أحوّل «بيروت هولدم» من فكرة إلى أفكار ثم إلى فيلم. أعتقد أنني أعمل وفق الانطباعات التي أكوّنها عن الأشياء، فأمزج الهواجس والأفكار وأجعلها تتزاوج».
انتهى كمون من إنجاز «بيروت هولدم» عام 2019 قبيل الأزمة الاقتصادية، ولكن ما حصل تباعاً من تفشي كوفيد-19 والأزمة المادية حال دون إصدار الفيلم حتى هذا العام. علماً أنه عُرض في «مهرجان البحر الأحمر» في السعودية في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. بيروت حاضرة بتفاصيلها اليومية وشوارعها ومخاطرها في الفيلم، وما يعيشه أبطالها من صعوبات ينطبق تماماً على ما تشعر به غالبية قاطنيها اليوم في ظلّ أقسى أزمة تمرّ عليهم. يقول المخرج إن الفيلم انتهى قبل الأزمة، مضيفاً: «ما نراه فيه ويشعرنا بالأزمة مصوَّر من قبل. هو نتيجة مراقبة وخيال وإحساس، أشبه بشيء عضوي. كل ما صوّرته مرتبط ببعضه. منذ فيلم «ظلال» القصير الذي أصدرته عام 1994 امتداداً لـ«فلافل» وصولاً إلى اليوم، اعتمدت دوماً على المراقبة والأحاسيس محاولاً التعبير عنها كما أعرف».
يستوحي الفيلم عنوانه من اللعبة الشهيرة، في إشارة واضحة إلى تحوّل الحياة في بيروت إلى أشبه بلعبة مقامرة، وكذلك حياة زيكو وأصدقائه في هذه المدينة التي تخبئ لهم كل يوم أمراً جديداً وتحديات أخرى قد تكون أصعب مما سبق. عن هذا، يعلّق كمّون: «هذا ما يحتّم علينا إنجاز الأمور بسرعة لأننا لا نعلم ما تخبئه لنا اللحظات المقبلة. تتحول حياتنا إلى مقامرة. نعيش لحظة الدراما إلى الحد الأقصى كما نفعل مع لحظات السعادة أيضاً. إذا أحبّ المرء، فعليه خوض المغامرة حتى النهاية مهما كانت النتيجة سواء كانت الدمار أو الفرح وكذلك الأمر إن كره. أعرف هذه الأمور لأنني أعيشها. هذا هو نبض الفيلم».
المراحل والطقوس تعبّر عن مرور الزمن في السينما


الرموز والطقوس الدينية لها مكانتها في الفيلم، من زواج كنسي إلى عمادة ومراسم الدفن. فكمّون يحبّ توضيح الإطار الاجتماعي الذي تعيش ضمنه شخصياته الآتية من مكان ما في النهاية: «ينتمي زيكو إلى هذه الفئة. لا أحب الأفلام التي لا نعرف فيها إلى أي مكان ينتمي الشخص. لا أتحدث هنا عن الدين، لكن أريد أن أظهر من أين يأتي. فالشخصيات التي لا نعرف من أين تأتي، نشعر كأنّها من دون يد أو قدم أو وجه، فضلاً عن الطريقة التي أستخدم فيها هذه الطقوس في المراحل الحياتية. هي محطات في السرد وطبقات عدة. المراحل والطقوس تعبّر عن مرور الزمن في السينما في محاولة لعكس مرور الزمن في الحياة».

* «بيروت هولدم» في الصالات بدءاً من الخميس