«هذه قصة خيالية تقع أحداثها في عالم من وحي الخيال. لنا أن نسعد بأنّ الواقع أجمل وأكثر إشراقاً». بهذه المقولة المراوغة المعروضة على الشاشة يفتتح «شرف» للمخرج المصري سمير نصر (ألمانيا، تونس، فرنسا 2021). الفيلم مقتبس عن رواية مهمّة تحمل العنوان نفسه للكاتب المصري المعروف صنع الله إبراهيم (1937)، نُشرت عام 1997 البعيد (أو القريب؟). بطل كل من الرواية والفيلم هو الشاب أشرف عبد العزيز سليمان، الذي لقبته والدته بـ «شرف».المقولة المذكورة أعلاه مفعمة بالسخرية التي غالباً ما تتميز بها مؤلفات إبراهيم، فترسم عالماً ديستوبياً بلا أمل في الخلاص الفردي أو الجماعي. تتحول مآسي شرف المصري إلى مآسي المواطن العربي بشكل عام، فيختار المخرج إضافة بُعد عربي واسع في مكان واحد حيث تدور أحداث الفيلم: سجن بائس في بلد غير محدد، توحي اللهجات المختلفة التي يتحدث بها السجناء والسجانون (الفلسطيني أو الشامي أو التونسي أو المصري) بأننا قدّام مشهد يتعلق بالعالم العربي.

فيلم «شرف» مقتبس عن رواية للكاتب المصري صنع الله إبراهيم

كان شرف قد قتل أجنبياً حاول اغتصابه. بعد استجواب قصير تحت التعذيب، يجد نفسه وسط سجناء من كل الأشكال والألوان. المفترض أن يكون السجن مكاناً «للإصلاح والتأديب»، إلا أنه خطر جداً يسوده الفساد على جميع المستويات، فعلى مرأى السجّانين يتم الإتجار بكل المواد الممنوعة. حتى علبة السجائر هي العملة المتداول بها في كل العلاقات بين السجناء أو بينهم وبين السجّانين، للحصول على حقوقهم المشروعة البسيطة. تصوّر الكاميرا أماكن السجن المتنوعة، جدرانها متآكلة وغرفها متهالكة. يسيطر عليها اللون الأصفر الباهت بالتناوب مع الرمادي أو الأسود. حتى الموسيقى التصويرية تثير الحزن والاكتئاب، فيعلن دقّ الطبول مشاهد جديدة من البؤس واللاإنسانية.
ينقسم الفيلم إلى فصول عدة، يحمل كل منها عنواناً يشير إلى مكان في السجن أو إلى قصة أو شخصية، لكن هذا الانقسام لا يبطئ إيقاع الفيلم. على العكس، فهو يساعد المشاهد على التمييز بين المحاور الأساسية في الحبكة.
يبدو السجن كأنه صورة مصغّرة عن المجتمع العربي: بالإضافة إلى شرف، هناك دكتور خبير في الأدوية، وسارق سيارات محترف، وسفير فاسد، وسفّاح، وشيخ مختص في العلاج الروحاني، وأصوليون إسلاميون. يروي الجميع لشرف قصتهم أو قصة زملائهم، ما يمنح الفيلم بُعداً روائياً مليئاً بحكايات قد تساعد على خلق عوالم شيقة أو تخفيف الأجواء الكابوسية.
ما وراء التضامن العادي بين السجناء، لا تظهر رؤية مشتركة للعالم أو قيم صداقة حقيقية. يرجع ذلك بالتأكيد إلى تنوع الخلفيات الاجتماعية والثقافية لكل سجين، وقد يرمز ذلك إلى الخلافات التي تمزّق العالم العربي، في حين يبدو جميع مسؤولي السجن منسجمين متعاونين على حفظ الأمن والهيمنة المطلقة. تتمثل أكبر مفارقة في حبس شرف بسبب دفاعه عن «شرفه» ضد أجنبي، بينما يتعاون بعض سجّانيه مع الشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات لإخفاء فضائح ضخمة تسبّبت في أمراض لمواطني بلدانهم.
تتحول مآسي شرف المصري إلى مآسي المواطن العربي


بعد ربع قرن على نشر الرواية ضمن مرحلة مسمّاة «ما بعد الاستعمار»، لم تتغير الديناميكيات السياسية المعروضة في الفيلم، إذ نشهد أنظمة مستبدة بطرق جديدة ومجتمعات ممزقة بسبب الخيانات والصراعات والخصوصيات الأنانية، وخطاب «الوطنية» يبدو مفرغاً من أي معنى.
شرف نفسه سيكون ضحية مرة ثانية، إذ تهجره حبيبته لبدء حياة جديدة مع شخص آخر. لكنه أيضاً يظهر جانبه الضعيف كمُخبر ضد البطل الدكتور رمزي يعقوب الذي يكلّف نفسه بمهمة توعية رفاقه في السجن بحقوقهم. سيتخلى عنه أيضاً بعض مساعديه في تمثيلية الدمى التي يتولى إخراجها في السجن احتفالاً بعيد النصر (الفيلم لا يحدد أي نصر)، وسيدفع ثمن جرأة هذه التمثيلية. يوحي تواطؤ السلطات مع عمليات احتيال شركات الأدوية المتعددة الجنسيات التي يكشف عنها الدكتور رمزي، بسيناريوهات لا تزال راهنة اليوم، وقد صار الإنسان في كل أنحاء العالم فأر تجارب طبية.
في عصرنا المتّسم باللامبالاة السياسية، ورفض الأيديولوجيات وخضوع المسؤولين للاستعمار الاقتصادي الجديد الذي تنتهجه مؤسسات مالية ضخمة، تعتمد رسالة إيقاظ الوعي والنضال من أجل الكرامة على شعارات قوية مثل: «ما تصدقوا الصحف والكتاب... والسينما والتلفزيون والأخبار والإعلانات». لكن أهم دعوة قد تبدو ميلودرامية أو خارج السياق التاريخي على الأقل، من أجل استعادة شرف المواطنين ـــ إذا لم يعد يجوز استعمال مصطلح «الشعب» ــــ تأتي على نغمات أغنية خالدة لسيد درويش: «أ هو دا اللي صار». نستمع إليها من فم الدكتور رمزي بعد أن يعاقبوه بالحبس الانفرادي، ثم تتصاعد فتعلو وتيرتها وسط السجناء الآخرين و.... المشاهدين في قاعات السينما.

* باحث اللغة العربية وآدابها في «جامعة باري» ـــــ مؤلف «السينما العربية» (2007) و«الرواية العربية في السينما» (2014)، بالإضافة إلى مقالات عن الأدب العربي المعاصر وعلم اللغة الاجتماعي والديناميكيات الاجتماعية والسياسية في تونس وليبيا ومصر قبل عام 2011 وبعده.