في دراسة عميقة للأفكار المتطرفة في الروح والشخصية البشرية، وكوميديا تراجيدية سخيفة حول لا معنى الوجود البشري، يضحك علينا فيلم «جنيات إينشيرين» (مرشّح لتسع جوائز أوسكار من بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج) بكوميديته الشديدة السواد التي لا تستثني أحداً، لا شعباً ولا عداءً وطنياً ولا مجموعة عرقية أو بشرية. نحن هنا جميعاً، محاصرون في العزلة العبثية، أمام القهقهة المتهالكة، والحسابات غير المكتملة، والعجز عن التنبّؤ باختيارات الآخرين وخياراتنا، وحولنا الحرب وانهيار صداقة. بعد خمس سنوات على فيلم «ثلاث لوحات خارج إيبينغ، ميسوري» (2017)، يعود الأيرلندي مارتن ماكدونا بفيلم متوازن نموذجي، مختلف تماماً من حيث الموضوع والأسلوب عن سابقاته، لكنه ببساطة مثالي، أصلي، عاطفي، مؤثر ومضحك لشدة سوداويته. ومرة أخرى يلتقي الممثلان كولن فاريل وبريندان غليسون على الشاشة بعد «في بروج» (2008)، وهما الآن صديقان مقربان يعيشان في العشرينيات من القرن الماضي في أقصى غرب أيرلندا، وتحديداً في إينشيرين.بادريك (كولن فاريل)، رجل بسيط، مباشر وغير ذكي، يعيش في منزل صغير بجانب البحر مع شقيقته شيبون (كيري كوندون)، وحمارهما المحبوب والأبقار التي يعتاشان من حليبها. أهم ما يميز يومياته، التي تبدو ثابتة وأبدية مثل الصخور التي تحيط بمنزله، هو الذهاب كل يوم عند الثانية بعد الظهر إلى بيت صديقه المقرب الأكبر سناً كولم (بريندان غليسون)، ثم الذهاب معاً إلى الحانة لشرب الجعة السوداء حتى عودتهما إلى منزلهما بشكل عام في حالة كارثية من السكر. هذه العادة تنتهي عندما يفاجأ بادريك بأن كولم لا يريد الذهاب معه إلى الحانة للمرة الأولى في حياتهما، فيطالب كولم بتوضيح قراره. يصعقه كولم بالجواب الذي يبدو طفولياً بعض الشيء، هو أنه لا يريد أن يكون صديقاً له بعد اليوم. هذا المأزق غير المتوقع والعذر البسيط، سيؤديان إلى عواقب فوضوية لكليهما، عندما يقرر بادريك عدم قبول نهاية هذه العلاقة. تبدأ الفوضى والقصة على مدار ساعتين من الفيلم تقريباً، حيث يتمكن ماكدونا من تحويل أي شيء إلى كل شيء أمام أعيننا. ومع وجود هذه القصة البسيطة، نتابع الحياة اليومية لمجتمع أيرلندي صغير عندما أصبحت المعضلة الخاصة هذه مصدر ارتباك كبير للمدينة.


انهيار الصداقة هذه هي استعارة للحرب الأهلية الأيرلندية التي قاتل فيها الجيش الجمهوري الأيرلندي ضد الحكومة المؤقتة عامي 1922 و1923. الأشخاص الذين قاتلوا جنباً إلى جنب في حرب الاستقلال قبل بضع سنوات، وجدوا أنفسهم فجأة على طرفي نقيض، مع إيديولوجيات مختلفة، في صراع أكثر دموية. من خلال الانفجارات التي نراها ونسمعها عن بعد، فإن الحرب حاضرة في جميع مراحل «جنيات إينشيرين» لإجراء مقارنات مع الصراع الإيديولوجي بين بادريك وكولم. ومثل أي حرب أخرى، يتصاعد العنف والقطيعة، وتنتقل من الحيرة إلى الانتقام ومن الحب إلى الغضب. وتطارد الشخصيات السيدة ماكروميك القاتمة (شيلا فليتون)، شخصية تشبه الجنيات (Banshees في الأساطير الأيرلندية، هي روح تتجول في الريف ويمكن سماعها تئن أو تصرخ عندما تتنبأ بالموت). وكما الحرب في الخارج، تنفجر حرب الداخل وتنهار علاقة استمرت سنوات، ويتخذ الناس خياراتهم، ما يتسبب في إلحاق الضرر بأنفسهم وكذلك بالآخرين، ويرسم كل شخص مصيره بلا رحمة.
كما هي الحال في الأعمال السابقة، يلعب المكان الجغرافي دوراً رئيسياً. قبلاً كانت بروج، ومن بعدها لوس أنجلوس في «السيكوباتيين السبعة» (2012)، ثم ميسوري. هذه المرة إنها إينشيرين. بلدة خيالية لكن منها يعود ماكدونا إلى جذوره لعرض الواقع واللعب به بإيجاز، ويستمتع بالمشاهد الجمالية لبلده. في بداية الفيلم، تطفو الكاميرا بشكل شبحي خارج الغطاء السحابي فوق الحقول الخضراء والمنحدرات الصخرية والبحر المضطرب. وبينما ترافقها الموسيقى الشعبية، يستحضر ماكدونا بشكل هزلي عالم الأساطير الفولكلورية، في مكان يقوم بتفكيكه ببهجة. ينثر ماكدونا الأفكار الكوميدية في خضمّ اللحظات الدرامية، ويوقظ الضحكة التي لا مفر منها. تنمو هذه الحكاية المأساوية تدريجاً، ويستخدم المخرج طبيعة شخصياته للحفاظ على جو من الخفة رغم الثقل النفسي، وبين كل سطر وجودي، هناك توازن مثالي بين الفكاهة والحزن، حيث تختفي النكات بين مشاعر الخوف من الوحدة والموت والنسيان.
على الرغم من أنّ كل شيء يبدو للوهلة الأولى بسيطاً مثل تفكير بادريك، إلا أن الفيلم يكتسب مع كل ثانية عمقاً مع كل شخصية جديدة تظهر وجملة تنطق. ربما تكون أكثر شخصية مفاجأةً في الفيلم (وبشكل عام) هي شخصية دومينيك (باري كيوغن في أداء عظيم) الذي يتعرض لإساءة معاملة من والده المخمور، رئيس الشرطة في الجزيرة. دومينيك يُعامل مثل أحمق المدينة، لكنه في الواقع هو الأذكى على الإطلاق. بين الضحكات تُظهر حواراته الصادقة عدم نضج الصراع وتكشف من هو الأحمق الحقيقي في إينشيرين. نسافر في الفيلم عبر وديان وجبال أيرلندا، من منظور ريفي شبه شاعري، يتناقض مع الموضوع ومع شخصية بريندان غليسون في أدائه القوي بشخصية كولم. لكنّ الحقيقة هي أن المخضرم ما كان ليكون مثيراً على الشاشة لولا كوريل فارل، بلكنة مرسومة وحواجب منحنية تدل ضمناً على وجه نحيف وحزين. الثلاثة، بالإضافة إلى كيري كوندون بشخصية شيبون، يقودون مشاعرنا في هذه المتعة السينمائية التي لا يمكن إلا أن يفعلوها تحت قيادة ماكدونا، في فيلم يستحق بجدارة كل الجوائز التي حصدها وسوف يحصدها في الأوسكار الذي سيقام في آذار (مارس) المقبل.
توازن مثالي بين الفكاهة والحزن، حيث تختفي النكات بين مشاعر الخوف من الوحدة والموت والنسيان


هناك موضوع متكرر في الفيلم وهو السؤال عما إن كان يجب على حياة المرء أن تخلق عظمة لأجيال قادمة، أو ما إن كان الاكتفاء بابتذالها كافياً. يبدو أن ماكدونا قد وجد الجواب، فهو نسج لحظات ذهول وعظمة سينمائية من رواية سخيفة. «جنيات إينشيرين» دراما كوميدية غريبة، تأتي منها الضحكات بكل ذكاء، ويتسلل عالم ماكدونا الهزلي إلى لغة جسد شخصياته ورسومها الكاريكاتورية والمبالغات الأدائية. يعرف ماكدونا جيداً ليس فقط ديناميكيات المجتمعات والصداقات المغلقة، ولكن أيضاً الطبيعة السخيفة للخلافات التي تؤدي إلى نتائج عنيفة. «جنيات إينشيرين» هو استعارة حرب وجودية لا تُنسى وتتحسن مع كل فكرة تضعها فيه. عمل يدرك الوجود البشري والفن والصراعات في جوهرها، وهو نظيف بما يتناسب مع الموضوع، لكنه رائع في كل إطار إنساني بقدر ما هو قاسٍ. يثبت الفيلم أن ماكدونا يمكنه تجديد نفسه مع الحفاظ على أسلوبه. سنستمتع بضحكة كبيرة مرة أخرى، وفي اللحظة التالية سنشعر بالنفي في أزمة وجودية مظلمة. هذه هي أكثر أعمال الكاتب والمخرج شخصية، وأكثرها هدوءاً، وفي الوقت نفسه، الأكثر كآبة. فيلم مليء بالعواطف، يظهر مدى اضطراب العلاقات الخاصة في مجتمع مفكّك، وكيف يمكن أن يكون الإنسان معقّداً بشكل سخيف.