يتخلّى علي شرّي (1976) عن أي أطروحة معلنة، وتدخّل في الأحداث أو تفسير مباشر للحقائق. في الوقت عينه، يمزج الفانتازيا بالواقع، من دون أن يلفت النظر. بعناد، يبني كل شيء ويركز على بطله الذي لا يتكلم كثيراً. يستبدل الحقائق بأفكار تعذّبه، تستهلكه، تقضي عليه وتبتلعه. الكلمات لا تخرج بسهولة على مدى ساعة وعشرين دقيقة، ولكننا ننغمس في عزلة كل نظرة، ونظل أمام الشاشة مرتبطين بكلمة وفكرة. حرية سينمائية أراد من خلالها تحويل الكلمات إلى طمي. هذا التحرر، لا يصرخ بل يعيش في الأفعال المجازية. في «السّد» (2022)، نجد أنفسنا في دوامة من الرياح والرمال والهواء والطين. نرى ماهر (ماهر الخير) محاصراً بين الصحراء والماء، وأصوات تهمس له بعبارات تساؤلية، وكلب يلاحقه، وأخبار الثورة السودانية تتقاذفه. يجد في وحشه الطيني الذي يبنيه ملاذاً من المواجهة أو عزلة وقائية لأفكاره. ندخل في متاهة تحثنا على طرح أسئلة كبيرة، بينما لا يمنحنا شرّي أي إجابات، فما يحدث أكبر من الإجابة. فيلم المخرج والفنان البصري اللبناني، يرمينا في حقبة تاريخية غير بعيدة، تحديداً عند الثورة التي سبقت عزل وإطاحة عمر البشير، لتتّسع التجربة السينمائية، وتصبح كابوساً تحت عدسة شري الذي يتقن تمرير الارتباك والشك في كل مشهد بسلاسة فائقة. يسكن «السّد» تارة مثل ركود المياه في سد مروي، ويجرفنا معها عندما ينفتح، وينقل توترات شعب ينتظر إلقاءه بين فكَّي عاصفة سياسية.ضمن جوّ شبه وثائقي وحالة تنويميّة، ينقلنا علي شرّي إلى أفريقيا، تحديداً إلى السودان في محيط سد مروي على نهر النيل. هنا يكسب العمّال قوتهم من خلال العمل الموسمي الشاق في مصنع الطوب. عندما ينتهي يومه في تصنيع الطوب باليد، يهرب ماهر، أحد هؤلاء العمّال، ويختلي بنفسه في الصحراء حيث يبني برجاً طينياً غامضاً. وفي خلفية كل هذا، تحتلّ الثورة السودانية الأجواء من خلال التلفزيون والهاتف والراديو. في ركود هذه القصة المجازية الرمزية، شيء ما غامض يحدث لماهر. تحتل الأسئلة عالماً يبدو هادئاً في البداية، لكنّه سرعان ما يتحول إلى النقيض، ويُخرج شخصيات معذبة وواقعاً مشوّهاً تماماً، ترك جروحاً وصدمات وحسابات معلّقة يصعب أن تلتئم أو تستقر تماماً مثل جرح ماهر الذي لا يندمل في أسفل ظهره.


هناك علاقة كبيرة بين شرّي وأفلامه وغموض الأرض وتاريخها والعنف. باكورته الروائية الطويلة «السّد» لا تختلف كثيراً عن أفلامه القصيرة السابقة وهو جزء منها. في «القلق» (2013 ــــ 20 دقيقة) استكشف الصدوع في لبنان والتاريخ الزلزالي للبلاد. وفي «الحفار» (2015 ــــ 24 دقيقة) ذهب إلى منطقة «مليحة» الأثرية في الشارقة في الإمارات، تحديداً إلى موقع أثري يضم مقابر عمرها نحو 5 آلاف عام، حيث رصد يوميات عامل باكستاني يحرس المقابر. وفي العام الماضي، قدّم في «بينالي البندقية»، تجهيز فيديو بعنوان «من الرجال والآلهة والطين». هنا عاد إلى تاريخ سد مروي وعواقبه وعماله. فيلم «السّد» لا يختلف عن «من الرجال والآلهة والطين»، إذ خلق شرّي عالماً إنسانياً مقلقاً كما خلق ماهر عملاقاً من الطوب.
ليس هناك قصة بالمعنى الحرفي في «السّد» إنما حالة، واقع وعالم مثير للقلق يتكون من الصمت والعزلة على خلفية الاضطرابات السياسية، حيث الصحراء حلقة الوصل بين الإنسان والأفق. هاجس شرّي هو إعادة خلق الغموض للوصول إلى الجوهر. يفضّل الكتمان الذي يفصل الواقع اليومي عن عالم الخيال البشري، فيذهب إلى حدود غير مفهومة لا يمكن تفسيرها. وهذا ما يسمح لنا في فيلمه أن نعطي أهمية كبيرة للتأمل التجاوزي والتأمل خارج حدود الواقع، كما يفعل ماهر. «السّد» عمل يطبخ على نار هادئة جداً، ويعطي تجربة روحانية إذا تم تقديرها بالصبر والالتزام والاهتمام والكرم. يستغرق شرّي كل الوقت في العالم لبناء تفاصيل عمله، ولا يقدمه بأسلوب مفرط في الادعاء والبطء والتأمل، على العكس، البساطة هنا مهيبة في مناخ يكاد يكون خانقاً بيئياً وسياسياً واجتماعياً. هذا الجو القمعي، يعمل ببراعة، حيث تبني البيئة الصحراوية والطين والماء والهواء عالماً مهيباً.
الثورة عمت الأرجاء كلّها، والأخبار التي نسمعها ويسمعها العمّال تتعلق فقط بالثوار. وشرّي غير مهتم بمشاهد الثورة، لكنه مهتم باستحضار تفاصيلها غير المرئية وانعكاسها على شخصياته. ابتكر شرّي سينما داخلية، يتناغم إيقاعها مع الصمت وتدعونا إلى سماع ذلك الصوت الذي يولد كصرخة هادئة مكتومة، تتحول تدريجاً إلى يأس. يجمع «السّد» برهبة الواقعية السحرية والشاعرية والخيال، ويقدم ببلاغة الحياة اليومية لعمّال بعيدين عن العنف، لكن كل شيء حولهم مليء بعنف غير مرئي. يبني شرّي جمالاً من الطين والأجساد والأيادي التي تخلق الطوب، ويراقب الفيلم العمّال المنهكين بصنع الطوب بكل حرفية. وتيرة الفيلم بطيئة، وقبل أي شيء، هناك لحظات صمت تلتقط المشاعر وتؤطّر العنصر الرمزي للقصة. ومع كل مشهد ولحظة صمت، يبدأ طريق وجودي جديد. السينما فن البطء والجمال والكلمة والحركة، وشرّي يعي ذلك تماماً، لذلك يعطينا المجال للغوص في كل مشهد، ولا يترك الأفكار تتسارع مع بطء الأحداث والمشاهد، وهذا ما أعطى الفيلم توازنه. مشاهد تتباطأ كأنها تنتظرنا، لا العكس. يأخذ كل مشهد وقته، ثم عندما يعي أننا مستعدون للمشهد التالي، ينقلنا بمشاعرنا وأفكارنا إليه. تتضخم الصحراء بعينَي المخرج، الذي يراها ثراء لا ينضب محملاً بالوعي الجماعي والتاريخ المكبوت والذاكرة، كأنه صندوق مليء بالأساطير والوحوش الطينية. يكشف لنا شرّي طريقة تعامل الشعوب التي ورثت تاريخاً عنيفاً، وكيف تعيد بناء نفسها وتخلق وحوشاً تدمّرها قطرات ماء. لذلك، شرّي غير متفائل، وشخصيته محكوم عليها بلعب جولات ملعونة بينما تتخبط بين الصدمة والعجز والعنف.
ضمن جوّ شبه وثائقي وحالة تنويميّة، نتابع العمّال في مصنع الطوب


نادراً ما تبتعد الكاميرا عن وجه ماهر الحازم (ماهر الخير عرف تماماً كيف يفضح كل مشاعره من عينيه بأداء مهيب) وتبتعد الكاميرا عنه فقط ليسمح لنا شرّي بأخذ مسافة منه ويذهب إلى المشاهد الطويلة، يستعيد عبرها الصحراء المجنونة والمخيفة. يخلق تتالياً دائرياً وجهنمياً من المشاهد التي تبقى غير واضحة أو مفهومة لسبب. يتقن شرّي تضييعنا وترك الأحداث تائهة، حتى طريقة تقديم الفيلم والمونتاج يسيران في الاتجاه التائه ذاته، هناك عدم يقين يحيط بالأحداث. الصورة فتاكة في «السّد». طوّع شرّي ومدير التصوير باسم فياض المشاهد، ولفّاها في تسلسل فائق الدقة، لتقول القليل وتبقى طينية عمداً. أتقن شرّي وفياض هندمة اللقطات، وفي كل مشهد لماهر يتم تكريسه برمزية، بعيداً عن الإملاءات والسلوكيات المفترضة. قدم شرّي فيلمه بطريقة جعلتنا غير مدركين تماماً ما إذا كان شريطاً تسجيلياً أو روائياً. من خلال هذه الطريقة، أثبت أن فيلمه، والسينما بشكل عام، يمكن أن تكون تنبئيّة، تجعلنا نرى أشياء لا يمكن أن تراها إلا عبر عدستها، عبر وضع طبقات الصور فوق بعضها، لنرى تفاصيلها الدقيقة.
«السّد» هو محاولة الهروب من الذات، والاصطدام بالوعي الذي يجعلك مجنوناً، هو بحث في العزلة الأشد خطورة... محاولة للابتعاد عن العالم الذي يعني الدخول في أحشائه، والهروب رغبة في اكتشاف المجهول. هو رهاب الأماكن الشاسعة التي تستدعي الكوابيس والهلوسات. يتعامل الفيلم مع شخصية تتساءل عن اليقين المزعوم وتتفاوض مع الأسئلة الوجودية. في «السّد» جدلية لطيفة، حركة تمهد للأخرى، وكل حدث مرتبط بآخر، في الصورة التي تبدو أحياناً مكونة فقط من ضوء ورياح وماء وهواء ورمال وطين ونار، لا شيء نهائياً. سينما شرّي تتميز بشاعرية بصرية معطوفة على أسلوب شبه وثائقي، وإن كانت صورته تبدو ثابتة، إلا أنها ليست جامدة، تبدأ بالتحرك مع كل تدفق ماء، أو صنع طوب، ومن خلال أخبار الثورة التي تخترق المشهد من خارج الشاشة. في «السّد» لا يمكن الهروب من دهشة المشاهد. يعرف شرّي تماماً ما يجب إظهاره وما يمكن الصمت عنه. خلال الفيلم، شعرنا بالطين في أيدينا، غرقنا بالغموض، أضعنا الطريق في بعض الأوقات، أردنا خلق وحوشنا وقتل ومواجهة مخاوفنا. صنع شرّي بنجاح فيلم مخيف إنسانياً، مؤرق عنفياً، وواسع فكرياً، يسكن داخل أظافرنا كما يسكن الطين أصابع العمال، وننهي الفيلم مع الإدراك الكامل بأننا لا ندرك تماماً.

* «السدّ»: بدءاً من 23 حتى 29 آذار (مارس) في الصالات اللبنانية