كريم ضاهرصدر عن جمعية الصناعيين أخيراً، في إطار الخلوة التي عقدتها لبحث خطة العمل للسنوات الأربع المقبلة، استغراب (إن لم يكن استنكاراً) من موضوع سحب واستبعاد عملية إعادة التقويم الاستثنائية للأصول الثابتة من مواد مشروع قانون الموازنة لعام 2010. وكنت في مقال سابق قد بيّنت سلبيات اعتماد «رسم الثلاثة في المئة على الفروقات الإيجابية الناتجة من إعادة تقويم استثنائية للأصول الثابتة والعقارات والموجودات لدى الشركات»، وذلك بسبب خطورة النتائج التي كانت ستترتب عن إجراء غير مدروس كهذا، سواء لجهة تسهيل أعمال المضاربة العقارية وإفراغ المدن من سكانها، أو لجهة العدالة الضريبية عموماً، فضلاً عن خسارة الخزينة لموارد أساسية على المدى المنظور.
ومن النافل القول إن هذا الانتقاد كان هدفه الأساس تصويب الأمور ومنع الانحراف قبل فوات الأوان؛ بحيث كان يطمح إلى مجرد حث المسؤولين على بحث المسألة بصورة علمية والتعويل على قدرتهم على إجراء تشخيص دقيق وواقعي لأبرز المشكلات التي كان ستتأتى عن إجراء كهذا، إن لم يوضع في سياق مشروع عام متكامل وسياسة ضريبية محددة الأهداف والمعالم.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فالمسألة هنا ليست في أن نكون مع عملية إعادة التقويم الاستثنائية المقترحة، أو ضدها، لكنها تكمن في استعمال هذا الإجراء لتحسين أوضاع القطاعات الإنتاجية و/أو الواعدة من جهة، ووضع حد للمضاربات العشوائية والمنحى التضخمي لأسعار العقارات، من جهة أخرى.
وهذا ما يحملنا على التأكيد أننا، مع كثيرين ممن انتقدوا النص المقترح في صياغته الأولى، نشاطر جمعية الصناعيين الرأي ونشد على عزيمة جميع أعضائها لجهة اعتماد أي إجراء أو نص يسهل إعادة تقويم أوضاعهم ويحسّن موازنة شركاتهم ويعزز قدرتهم على الاستدانة وعلى تطوير إنتاجهم ونموه مع ما يستتبع ذلك من تحريك لعجلة نمو الاقتصاد الوطني. إلا أن تدبيراً كهذا يقتضي أن يندرج في سياق خطة متكاملة هدفها تعزيز الأنشطة المنتجة (لا الريعية غير القابلة للتبادل) لإرساء نمط من النمو الحقيقي والمستدام (لا الظرفي القائم على التحويلات الوافدة من الخارج) الذي يُسهم بدوره في خلق فرص عمل جديدة وفي إطلاق برامج استثمارية تحدّ من الهجرة والانحدار العمودي.
المسألة تكمن في كيفية استعمال إعادة التقويم، للمتاجرة أم لتحسين أوضاع القطاعات الإنتاجية؟
لذلك، إن الانتقاد الذي طال نص المادة 32 (الملغاة) من مشروع قانون الموازنة المحال على المجلس النيابي كان منصبّاً على الدمج الحاصل في ما بين الأصول الثابتة والأصول الأخرى التي هي موضوع متاجرة. وإذ نجد أنّ من الطبيعي السماح بإجراء عملية إعادة تقويم استثنائية لأصول المؤسسات ذات القيمة المضافة وتوسيع مطرح المستفيدين منها لكي تطال كل من هو ملزم بمسك محاسبة منتظمة، مهما كان نظام التكليف الذي يخضع له، بهدف تمكين المؤسسات من إظهار أوضاعها المالية الحقيقية وإبراز مركزها المالي السليم نظراً للتغيير الحاصل في قيم الموجودات الناتج من زيادة الأسعار وتدني القيمة بسبب القدم أو الأستهلاك، كما وتمكينها أيضاً من تكوين احتياطي مالي لاستبدال تلك الأصول بعد استنفاد جدواها، على أن يجري ذلك من طريق استهلاك الأصول المعاد تخمينها على أساس القيمة الجديدة الناتجة من عملية إعادة التقويم. إلا أننا نرى أنّ من الضروري في المقابل حصر الاستفادة من الخفض الضريبي (3 في المئة بدلاً من 10 في المئة) بالأصول الثابتة دون الأصول التي هي موضوع متاجرة. فقد عرَف بعض المحاسبين والفقهاء الأصول الثابتة على أنها الأصول التي تُقتنى بغرض الاستخدام والتوظيف الدائم ضمن المؤسسة ومباشرة النشاط ولتحقيق إيراد طويل الأمد، لا بهدف إعادة البيع، وهذا ما ينطبق تماماً على أصول المؤسسات الصناعية من مادية (أبنية صناعية وتجهيزات فنية وآلات صناعية وإلخ) أو غير مادية (براءات الاختراع والإجازات والعلامات التجارية وحقوق الامتياز) التي هي جديرة بالحماية والاستفادة من الحوافز الضريبية. أما الأصول الأخرى التي هي موضوع متاجرة، فيمكن تصنيفها على أنها أصلاً متداولاً تحصل عليه المؤسسة بغرض إعادة بيعه كالأرض التي تقوم شركة عقارية بالمتاجرة بها مثلاً أو سندات المشاركة التي ينطبق عليها الوصف نفسه وجميعها من السلع غير القابلة للتبادل بالمعنى الاقتصادي الصرف أو غير المنتجة لفرص عمل حقيقية. وبما أن تكليف «أصول المتاجرة» هذه يتوافق مع مبدأ العدالة ويسهم في تقوية روح التضامن الوطني وتغذية موارد الدولة بحيث يُسهم الأشخاص الذين يجنون أرباحاً طائلة بتمويل الأعباء العامة، فمن البديهي إذاً إخضاع الأرباح الرأسمالية هذه للضريبة العادية، لا بل تطبيق معدلات متفاوتة، بحيث يُطبَّق الحد الأقصى عليها بمقابل خفض الرسم (الضريبة) أو حتى إلغائه على «الأصول المنتجة»، كالماكينات والأبنية الصناعية أو براءات الاختراع وخلافه مما هو مشابه أو متمّم (لكن مع إعادة التكليف بصورة رجعية retroactive إذا عمد المستفيد إلى إعادة البيع بهدف المتاجرة، وتبين أن هناك نية للغش و/أو لتخفيف العبء الضريبي).
هذا غيض من فيض لما يمكن اقتراحه في هذا الصدد للانتقال من حالة التشريع الاستنسابي والعشوائي الذي طال اعتماده إلى عصر العولمة والتخطيط المجدي والبناء... وإن غداً لناظره قريب!