إتفق سامر مع صديقه على مغادرة مخيم البداوي في الشمال والوصول الى أوروبا حتّى لو كلّفهمها الأمر حياتهما. يملك سامر جواز سفر فلسطينيا - اردنيا ما يخوّله الحصول على تأشيرة للدخول الى تركيا. في 17 أيار الماضي غادر سامر من مطار بيروت الدولي الى تركيا، وتحديداً أزمير. من هنا تبدأ رحلة المخاطر، «أزمير هي النقطة الأساسية للتهريب. «متل ما في سوق ذهب وسوق خضار وسوق تياب، في بأزمير سوق مهربين.
لست بحاجة إلى ان تسأل أحدا، بمجرد مرورك في الشارع يقتنصك المهربون سائلين: بدك تروح عاليونان؟»، يقول سامر. أثناء مروره في «السوق» توجّه اليه شخص مصري يدعى «ابو محمد» وعرض عليه تهريبه الى اليونان مقابل ألف دولار. اتفق سامر معه على التفاصيل واعطى أوراقه الثبوتية إلى صديق له في تركيا ليعيدها الى أهله في لبنان. بعد ايام، يروي سامر، «أخذونا إلى منطقة حدودية تبعد نحو ساعة عن البحر وأبقونا هناك لساعتين. بعد ذلك حضر باص يتسع لـ 20 شخصاً، وضعونا جميعاً، أي 80 شخصاً فيه، أوصلنا إلى منطقة على الشاطئ التركي».
كان الإتفاق بين سامر و»أبو محمد» ينص على أن يركب 36 شخصاً «البلم» (وهو قارب مطاطي صغير بأرضية خشبية) للعبور الى اليونان على ان يقوده المهرّب نفسه، إلّا أنه عندما يقبض المهرّب على رقبة الضحية تُبطل جميع الإتفاقات. رفض المهرب أن يصعد مع المهاجرين وأَجبر نحو 50 شخصاً على الصعود الى البلم الذي تمزّق قبل مغادرته الشاطئ التركي! ارتعب سامر، في هذه اللحظات أدرك ان عليه أن يتراجع، «كل هذه الإشارات كافية لتمنع اي عاقل من الصعود. نحن نذهب إلى حتفنا!»، يقول. لم يدرك الشاب العشريني ان القرار لم يعد في يده، التراجع عن هذه الخطوة قد يكلّفه حياته، وكذلك الإقدام عليها. أخبر سامر الناس المنتظرين على الشاطئ التركي انه لن يصعد في بلم ممزق، ليأتيه الجواب من المهرّب الذي صوّب المسدس الى رأسه محذراً إياه من عدم الصعود. صعد الجميع الى البلم االممزق، أمّا الوجهة فهي ضوء أصفر خافت يلمع من الشواطئ اليونانية من المفترض ان يصلوا اليه خلال ساعة ونصف ساعة وفق كلام المهرب.

انطلق البلم في البحر

خمس ساعات قضاها سامر في البلم، تعطّل فيها المحرّك 5 مرات. عند الساعة الخامسة صباحاً تغيّر الطقس وارتفعت الأمواج، «صرنا نبرم بقلب البحر ما عارفين شو نعمل. بلّشت الناس تصلّي، بهاللحظة تحديداً لما تكون الساعة 5 الصبح بنص البحر ببلم مخزوق وموج عم يشيلك من محل لمحل، إذا كنت مآمن أو ملحد ما فيك تعمل شي غير تصلي».
ظنّ المهاجرون أنّ الضوء الأصفر قريب، لكنهم كلما دخلوا عمق البحر كان الضوء يبتعد. رحلة المخاطر التي أُخبروا ان مدّتها ساعة ونصف ساعة إمتدت من الساعة الثانية و40 دقيقة ليلاً حتى الثامنة صباحاً عندما ظهر قارب خفر السواحل اليوناني. كالعائدين من موت محتوم تغيّرت ملامح الناس في البلم، انطلقت صيحات التكبير وازداد منسوب الإيمان في البحر، غزت الضحكات الوجوه، ورُفِع الأطفال على الأكف ليرى «الأوروبيون» أن هناك صغارا في البلم. سُحب البلم الى الشاطئ اليوناني وتحديداً إلى جزيرة «ميتيليني» حيث وضع المهاجرون أول خطوة في قارة الأحلام.

الهروب براً في أوروبا

«أخذتنا الشرطة اليونانية إلى معسكر مليء باللاجئين وبقينا هناك أسبوعا كاملا. أعطونا ورقة تفيد بأن لدينا شهرا لمغادرة الأراضي اليونانية»، يروي سامر أنه في اليوم الذي وصلوا فيه الى اليونان، وصل أيضاً نحو 45 بلماً. حجز سامر في احدى البواخر المتجهة من جزيرة «ميتيليني» الى أثينا. السيناريو نفسه يتكرر هنا إنما تختلف المناطق والناس. أثينا بالنسبة للمهاجرين هي إزمير، نقطة البداية نحو الهروب من دولة إلى أخرى.

صوّب المهرّب المسدس الى
رأس سامر محذراً إياه من عدم الصعود الى البلم الممزق


تنتشر المافيات التي تصطاد اللاجئين سائلةً «رايحين على أوروبا؟»، يشرح سامر أنّ «أوروبا» المقصودة هنا هي ألمانيا أم السويد، فألمانيا تحديداً تختصر القارة بأكملها بالنسبة للمهاجرين. ابتداءً من هذه النقطة قرر الشاب أن يتخلى عن المهربين وأن يعتمد على الـ GPS.
إتجه سامر ورفاقه من أثينا الى منطقة تسالونيك التي تبعد 40 كيلومتراً عن الحدود المقدونية، «قطعنا هذه المسافة سيراً على الأقدام» يقول سامر. مرّت 10 ايام على مغادرة الشاب مخيم البداوي ولا يزال على الحدود اليونانية-المقدونية. مع دخول المهاجرين الأراضي المقدونية تبرز مخاطر أخرى، «هذا أصعب جزء في الرحلة براً إذ تنتشر العصابات وقطّاع الطرق في الغابات فضلا عن الصقيع القارس». يُخبر الشاب أن اللاجئين موجودون بكثرة في الغابات الواقعة على الحدود المقدونية- اليونانية يقول باستغراب «كل شوي بتلتقي بعائلة».
من مقدونيا على المهاجرين أن يصلوا الى صربيا إلّا أنّ الرحلة شاقة جداً، يروي سامر أكثر رحلات حياته عذاباً «17 يوم مشي أخدت» «معنا الطريق من الحدود المقدونية- اليونانية الى صربيا، نمنا في الغابة وعلى الطرقات، هكذا يفعل الجميع».
وصل المهاجرون الى الحدود الصربية، حيث تنتشر عصابة «علي بابا». يستدرك سامر بسرعة خوفاً من اعتباره يمازح «هذه العصابة موجودة وليست خرافة وهي عبارة عن نحو 40 أفغانيا يرابطون في الغابة الفاصلة بين الحدود المقدونية - الصربية وأخذوا منا 750 يورو مقابل السماح لنا بالعبور الى أول قرية في صربيا». مع دخوله صربيا سلّم سامر ورفاقه أنفسهم الى السلطات التي اعتقلتهم ثم أخلت سبيلهم وأعطتهم مهلة 72 ساعة لمغادرة البلاد. لا يمكن اجتياز صربيا مشياً على الاقدام لذلك استقلّ سامر سيارة أجرة ودفع للسائق رشوة ليوصله الى الحدود الهنغارية.

«إياك أن تبصم في هنغاريا»

اجتياز الحدود الصربية - الهنغارية يحتاج الى مهرّب يأخذ 400 يورو على الشخص. هنا، يرتفع منسوب الخوف لدى المهاجرين، فأولى قواعد الهروب الى أوروبا هي أنه «مهما حصل إّياك أن تبصم في هنغاريا». لماذا؟ تعد هنغاريا إحدى الدول الموقعة على اتفاقية دبلن التي «تقضي بأن تتحمل الدولة مسؤولية من يبصم لديها أو يحصل على فيزا شنغن من سفارتها أو يعبر بها لكونها أول دولة يدخلها في الاتحاد الأوروبي»، بمعنى آخر من يبصم في هنغاريا يعود الى هنغاريا. مثل الكثير من المهاجرين، حظ سامر تعثّر وسط الطريق إذ اعتقلته السلطات الهنغارية. قرار سامر بعدم وضع بصمته على طلب اللجوء لم يدم كثيراً، فمشهد الشابين اللذين رفضا ذلك كان كافيا لإقناعه بأن يبصم. يصف سامر «كيف كُسرت يد أحد الشبان الذين رفضوا أن يبصموا»، هنا البصم إجباري وهكذا حصل، يقول الشاب بحزن «كل العذاب يلي بيمرق عالمهاجرين بس يبصموا هون بيخسروا كل شي».
يُتداول بين المهاجرين أنّ وحدها بصمة ألمانيا يمكنها أن تكسر بصمة هنغاريا بعد اتباع اجراءات معينة ما يخفّف وطأة الأمر عليهم، لكن «من يصل الى ألمانيا من دون أن يبصم يكون حظه في السما». على سامر ان يصل الى المانيا لذلك انطلق من بودابست إلى ألمانيا مروراً بالنمسا. رحلته هذه كانت سهلة إذ كلفته 500 يورو دفعها لسائق الأجرة الذي أوصله الى المانيا ليكتشف لاحقاً أن الأمور ليست بهذه السهولة في المانيا. مع وصوله اتجه سامر الى بلجيكا، حيث يقطن خاله، وذلك خوفاً من ترحيله الى هنغاريا قبل ان يتمكن من تسوية أوضاعه. وصل إبن مخيم البداوي الى بلجيكا في 15 حزيران الماضي، أي ان العملية بأكملها استغرقته 29 يوماً. أرسل إليه أهله أوراقه الفلسطينية وبقي شهرا كاملاً في بلجيكا لا يدري ماذا يفعل إلى ان توجه الى هولندا، حيث قدّم طلب لجوء بصفته فلسطينيا من لبنان. بصم سامر لدى السلطات الهولندية ولحسن حظه لم تظهر بصمة هنغاريا! البصمة الوحيدة التي ظهرت هي في اليونان. يقطن سامر اليوم في مخيم في هولندا ولا يزال أمامه شهران (المهلة القانونية 6 أشهر لبت الطلبات) لتحسم الدولة الهولندية قرارها بقبول طلب لجوئه أو لرفضه.