في 11 تشرين الثاني أطلّ وزير الصحة وائل أبو فاعور ليرمي «قنبلة» لم يتوقعها أحد. «أنتم تأكلون خرا»، قالها بعيد فضحه 38 فرعاً لمؤسسة ومطعم وملحمة تقدّم أغذية فاسدة. منذ ذلك الوقت بدأت حملة «سلامة الغذاء»، التي تحوّلت لاحقاً إلى حملة «الأغذية الفاسدة» بعدما صُدم أبو فاعور بحجم الفساد المستشري في هذا القطاع. كُشفت معلوماتٍ خطيرة: 11 الف حالة تسمم، 19 اصابة بمرض السرطان في مسلخ بيروت وأطنان من اللحوم الفاسدة والمواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك البشري مخزّنة في المستودعات تمهيداً لبيعها في الاسواق.
بالنسبة للبنانيين لم يشكّل التلوث الغذائي مفاجأة صادمة لهم. تفاجأوا، لكن ليس لدرجة تسمح لهم بإطلاق ردود فعل قوية، فهم اعتادوا سماع «خبريات» تلوث من هنا وهناك من دون أية محاسبة. ما صدمهم جدياً كانت خطوة أبو فاعور، إنها المرة الأولى التي يطل وزير على الاعلام ليقرّ «رسمياً» بوجود تلوث غذائي، كما أنّ أسلوب التشهير الذي اتبعه أبو فاعور نجح في هزّ عرش المؤسسات التي أصرّ أبو فاعور طوال الحملة على أن بعضها أقوى من الدولة. وكي لا ينسى أحد، «البعض» هو الدولة، وما الحملة المضادة التي أطلقها بعض الوزراء ولا تزال مستمرة سوى خير دليل على نفوذ الفاسدين. برز أخيراً خلاف حكيم- أبو فاعور الذي بلغ ذروته مع إعلان أبو فاعور وجوب تغيير اسم وزارة الاقتصاد الى وزارة الاختصار الورقي والاقتصاد في المهمات. استشرس وزير الاقتصاد والتجارة (وحماية المستهلك) آلان حكيم في تغطية فضيحة الـ 700 طن من السكر الفاسد في مرفأ طرابلس التي أكد أبو فاعور انها كانت معدّة لإدخالها السوق.
اكثر من شهر ونصف مضى على حملة أبو فاعور التي طاولت 1077 مؤسسة، إضافة إلى مرفأ بيروت واهراءات القمح، مطار بيروت الدولي، مطاحن ومسلخ بيروت، مرفأ طرابلس، وعدد كبير من المسالخ و12 مطحنة. تأخرت الحملة في الوصول إلى بيروت حيث يقع أكبر عدد من المؤسسات الغذائية فـ «دانت» أخيراً اكثر من 40 مؤسسة الا ان العينات لا تزال تتوافد: 2716 عينة فُحصت إلى اليوم منها 1945 عينة مطابقة أي 71.6%، و741 غير مطابقة أي 27.4%.
بدأت الحملة عشوائية، لم يعلم المواطنون الآليات التي اتبعت، كيفية الفحص، مصادر التلوث… استلزم الأمر مرحلة زمنية ليثبت أبو فاعور للبنانيين كفاءة مختبرات الدولة،
ابو فاعور: هناك مؤسسات
تحظى بحمايات سياسية وتملك كتلاً نيابية ووزارية

أخيراً اقتنعوا وسطع نجم «مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية». لم يكن يمكن للأمر ان يستمر بعشوائية فاتبعت استراتيجية استهداف مصادر الغذاء. الحصيلة كانت ان أكثر من 80% من المسالخ لا يتوافر فيها طبيب بيطري. نحو 87% من المسالخ يعمل فيها أشخاص غير حاصلين على شهادات صحية. و10% من مسالخ اللحوم أقفلت بشكل تام فيما وُجهت إنذارات الى 72% من مسالخ الدجاج لتسوية أوضاعها غير المطابقة للشروط الصحية. بعد المسالخ، المؤسسات الغذائية والمزارع، أتى دور مراكز تعبئة المياه ومراكز التجميل.
يرى أبو فاعور في حديث مع «الأخبار» أن الحملة على صعيد السلامة الغذائية تمكنت من إثبات أمرين اساسيين: أولا ان الغذاء في لبنان غير سليم، وثانياً هناك فساد متعمد في الغذاء في البلد. اما الإنجاز غير المباشر فهو إثبات ان الدولة اقوى من تجمعات رجال الاعمال، رجال السياسة، واقوى من منظومة المصالح القائمة بين السلطة والمال. «ما اكتشفته خلال هذه الحملة ان هناك مؤسسات ومصانع تحظى بحمايات سياسية كبرى وتملك كتل نيابية ووزارية»، يقول وزير الصحة. ليست قضية الفساد المتعمد في الغذاء خبراً عادياً، خصوصاً انها صادرة عن وزير. هنا تجب ملاحقة، محاسبة وادانة من سمم اكل اللبنانيين لسنوات، هنا كان على اللبنانيين ان ينتفضوا لمعاقبة من «اطعمهم خرا»؛ لم يحصل هذا بالطبع. 19 اصابة في السرطان في مسلخ بيروت ولم يُحاسب احد، زريبة في مستودعات المطار ولم يُقل أحد، جرذان في اهراءات القمح ولم يُسجن احد. «هنا الإخفاق الكبير»، يقول أبو فاعور. يكشف عن ضعف في المتابعة الامنية والقضائية «هناك مطاعم اخذنا قرارات بإقفالها ولم تُقفل لأن هناك مراعاة في بعض المناطق. هذا يقودنا الى فساد آخر، ما يؤكد اهمية التشهير الذي قمنا به كي يصبح المواطن هو الضابطة العدلية». يعلن المدعي العام للتمييز القاضي سمير حمود لـ «الأخبار» أن بعض الملفات التي أحيلت على القضاء اختتمت فيها المحاضر وحولت الى المدّعين العامين كلّ بحسب صلاحياته من اجل متابعة الامور الجزائية ومحاسبة المخالفين.
يعترف الوزير ان العنصر الاساسي غير المكتمل في هذه الحملة هو المحاسبة، «لم نأخذ اجراءات عقابية فعلية، هناك مؤسسات في دولة يجب ان تطاولها اجراءات الإقالة والمحاسبة، وهناك مؤسسات خاصة يجب ان تخضع للمحاسبة في القضاء». يعتبر ابو فاعور نفسه مكبلاً في الاجراءات الادارية، إذ لا يمكنه المضي بهذه الاجراءات بسبب خروجها عن نطاق صلاحيات وزارته لكنه يقول انه لن يقف متفرجاً. يصعّد ابو فاعور حملته: «طلبت من رئيس الوزراء اتخاذ الاجراءات اللازمة في الوزارات وسأقدم تقريراً كاملاً الى مجلس الوزراء يتضمن أسماء المسؤولين الذين تجب اقالتهم. الوزراء يمكنهم ان يقيلوا، فليُقيلوا إذاً». هكذا يرمي ابو فاعور الطابة في ملعب الوزراء، وهنا تحديداً نتحدث بشكل اساسي عن وزراء الاشغال العامة، الاقتصاد، الصناعة والزراعة. السقف العالي الذي سيضعه ابو فاعور يحتم على المسؤولين اما الإقالة او الاستقالة. هكذا إذاً يُطرح سؤالٌ مهم في «أكبر فضائح» ملف السلامة الغذائية، «زريبة» المطار: هل ستتم إقالة رئيس مجلس إدارة شركة الشرق الأوسط لخدمة المطارات «ميز» النائب غازي يوسف باعتبار أن الشركة مسؤولة عن مستودعات المطار؟ أبو فاعور كان قد أعلن في مؤتمره الصحافي انه يرفض توجيه كتب الى الشركات بعد الكارثة التي رآها في المستودعات فأصدر قراراً بحجز البضائع وتحويل الملف فوراً الى القضاء. يترك أبو فاعور الأمر إذاً للقضاء، فيما بدأ السجال حول المسؤوليات لأن «الميز» تعتبر ان صلاحيتها تتعلق في الصيانة فقط، اما الوضع في الداخل فهو صلاحية الجمارك، فيما ترمي الجمارك المسؤولية على «الميز». يذكّرنا هذا السجال بملفات كثيرة لدى القضاء تتعلق بتقصير هذه الشركة الذي اغرق نفق المطار لسنتين متتاليتين، آنذاك أُحيل الملف على القضاء وغُيّب عن السمع من دون أية محاسبة. لكن ما لم تتم المحاسبة، إلى أين ستصل هذه الحملة في النهاية؟ هدف الحملة وفق ابو فاعور «ضمان الحد الأدنى من سلامة الغذاء للمواطن»، يضيف مستطرداً «نظرياً». يعلم ان الاستمرارية غائبة عن إدارات الدولة، يقول: «سنضع الاجراءات التي تضمن الحد الادنى ونترك الأمر لوعي المواطن ومحاسبته للفاسدين. هناك قوانين كثيرة في البلد لا تُنفّذ. لدي مجموعة اقتراحات نعمل عليها عبر تحديد الضوابط القضائية، الصحية، الاقتصادية. سأبدأ بالإجراءات التنظيمية مثل شهادة صحية، تراخيص، دليل للمطاعم والمسالخ والمحال، مرسوم آلية تنسيق بين الوزارات…». يؤكد ان قانون سلامة الغذاء سيقر قريباً لكنه يبقى خطوة اولى، فالحملة تمكنت من اكتشاف حجم منظومة الفساد، المصادر الأساسية كذلك، حددنا مسؤوليات المصادر، الموردين وأصحاب المؤسسات.
شنّ أبو فاعور حملته على المسالخ وأُغلِق المسلخ الأساسي، مسلخ بيروت. بدائل الذبح لم تؤمّن فبرز سؤال خطير: أين يذبح اللحامون اليوم؟ معلومات كثيرة تحدثت عن افتتاح مسالخ سرية في المستودعات والكاراجات ما يعني مفاقمة المشكلة عوضاً عن حلّها. يقول إن هناك مسالخ خاصة بديلة ازدهرت، وفي بيروت تجرى الاستعانة حالياً بمسالخ المتن الشمالي والمسالخ الموجودة في الشويفات. يُقرّ ان الذبح يحصل أحياناً في الطرقات، من دون أن يستبعد أي شيء. الحل برأيه الإسراع في إقامة مسلخ عصري إذ لا يمكن أن نبقي عليه كما هو، إلا أنه يعود ليؤكد أن اكثر من 60% من اللحوم مستوردة. لا يقتصر الأمر على اللحامين فقط، إنما هناك مؤسسات افتتحت مستودعات سرية أيضاً تقوم بتشغيلها في الليل وقد أرسلت وزارة الصحة إلى القوى الأمنية لإجراء التحقيقات اللازمة.
أما ملف مراكز التجميل فقد فُتح وغاب عن الأضواء. هناك محافظات تم الاقفال فيها بالكامل مثل البقاع، ومحافظات حصل فيها اقفال جزئي، ومحافظات لم يتم الالتزام فيها بالإغلاق بالمطلق. يعترف الوزير ان هناك مراكز لا تزال تعلن على الإعلام وهي مغلقة. مركز جاين نصار مثلاً لم يُغلق في بيروت، يعلم أبو فاعور بذلك ويقول إنها مسؤولية المحافظ. المشكلة لدى هؤلاء المراكز ان هناك أشخاصاً غير اختصاصيين يعملون فيها ويرتكبون الأخطاء. يقول أبو فاعور انه على الرغم من ذلك ما زال هناك أشخاص يحاولون التحايل عبر وضع اسم طبيب جلد من دون أن يحضر إلى المركز، إلا ان الوزارة اتخذت اجراءات تنظيمية بحيث أنها لا تعطي اي ترخيص قبل التأكد من أن الطبيب يحضر بشكل دائم ولا يمكنه فتح عيادة أخرى.




700 طن

من السكر المكرر المنتهي الصلاحية، وجدته فرق وزارة الصحة في مرفأ طرابلس. اشعلت هذه الفضيحة سجالاً كبيراً بين وزيري الصحة والاقتصاد، إذ أعلن وزير الاقتصاد الان حكيم ان الكمية التي وجدت هي 500 طن لا 700 وهي مخصصة لإعادة تصديرها لا للاستهلاك، بينما أصر وزير الصحة على أن هذه الكميات كانت معدّة لتدخل إلى الأسواق. ووجه أبو فاعور مجموعة أسئلة الى حكيم عن سبب منع المراقبين من الدخول، ومحاولة إخفاء العنبرين 16 و17 عبر إقامة جدران لإقفال أبوابهما، مؤكدا ان هناك عملية غش وتزوير. تمنعت وزارة الاقتصاد عن الإجابة عن الاسئلة التي طُرحت في البيان، باستثناء ما يتعلق بكمية البضاعة الموجودة حاليا في المستودعات وتاريخ ادخالها الى الاسواق اللبنانية، لافتة الى أن آخر بيان جمركي وقّعته كان خلال الشهر الرابع من سنة 2014، ويتضمن الفي طن، وذلك بعد اجراء التحاليل المخبرية اللازمة التي بينت التطابق مع المواصفة القياسية اللبنانية للسكر. اما عملية تجزئة اخراج البضاعة، فتعود مسؤوليتها الى ادارات أخرى في المرافئ الحدودية.