أحد مظاهر تسليع التعليم، برأي وزير العمل السابق شربل نحاس، أن نرى الشباب يلجأون إلى التعليم العالي الخاص، يعتبرون أنهم يشترون «شهادة من الجامعة»، وسينجحون بذلك حكماً، بما أنهم لم يرتكبوا خطأً جسيماً. لأن «بلا الشهادة ما فيهم ياخدو مكان أهلهم في العمل ولا الهجرة إلى الخارج». يشير نحاس إلى أن تراجع التعليم الرسمي يترافق مع ارتفاع كلفة التعليم 200% في مقابل ارتفاع كلفة المعيشة بنسبة 120% في عقد ونصف عقد!
نهج الاقتصاد السياسي

يقول نحاس إن موجة الترخيص للجامعات الخاصة التي بدأت في عام 1995، ترافقت مع منعطف في الاقتصاد السياسي اللبناني. فبعد اتفاق الطائف، اتفق زعماء الحرب وبعض اللاعبين الجدد، على إرساء نظام اقتصادي جديد، يثبتون من خلاله قدرتهم على نقل ما اكتسبوه في ساحة الحرب إلى ساحة شبه الدولة.
في عام 1996 اتخذت مجموعة من القرارات ذات وقع، استمرت مفاعيلها لفترة 18 عاماً: وقف الاستثمارات العامة. وقف صيانة هذه الاستثمارات (مثل المياه والكهرباء). وقف التوظيف في الإدارة. وتجميد الأجور في الدولة اللبنانية من 31-12-1995 حتى 31-12-2011، أي لمدّة 15 سنة ارتفع في خلالها مؤشر غلاء المعيشة بنسبة 120%. وفي خلال هذه الفترة أيضاً، خلقت السلطة السياسية عدداً من النقابات، برعاية ما يسمى اليوم «الاتحاد العمالي العام»، الذي حافظ على العقد مع السلطة السياسية بمنع أي صوت نقابي أو عمالي مطلبي. يشرح نحاس أن مجلس الوزراء ألغى وقتها مفاعيل القوانين التي أنشأت المؤسسات العامة، واستهدف الجامعة اللبنانية مباشرة حيث أوقف التوظيف فيها، ونزع منها استقلالية قرارها.
جرت محاولتان لتصحيح النهج المتبع: الأولى عام 1999، والثانية عام 2004، لكن لم يكتب لهما النجاح. وجرى الانتقال حينها (بنجاح) من نظام الرشوة إلى نظام التقشف، «كما يسمونه»، علماً بأنه نظام ابتزاز، إذ إن أي مطلب كان يواجه بمقولة «الاستقرار المالي» و»حماية الليرة» و»المصارف». ففي هذه المرحلة تراكم الدين العام بفعل السياسات الحريرية. واستمرت هذه السياسات، وأُقرّت بدعة «التعاقد الوظيفي»: المتعاقدون بالساعة، المياومون، الأجراء، عمال غب الطلب، وغيرهم. نجحت السلطة من خلال ذلك بإسكات المطالبين بالحقوق وتكريس منطق التنفيعات، ومن جهة أخرى نجحت بتكريس سياسة تقمع أي تحرك مطلبي من قبل هؤلاء، لكونهم يعلمون أن وضعهم القانوني غير سليم، وعملية طردهم من عملهم مسألة بسيطة جداً.
وجدت الدولة في العسكر أيضاً باباً للتوظيف والتنفيعات، «لدينا 140 ألف عسكري، يشكلون 14% من القوى العاملة اللبنانية المقيمة. إسقاط هذه النسبة على عدد المقيمين في الولايات المتحدة (أي 14% من القوى العاملة) يساوي جيشاً من 24 مليون عسكري، أي إن القوى العسكرية عندنا تساوي مرتين أكثر من الذروة التي وصلت إليها أعداد الجيش الأميركي في الحرب العالمية الثانية». والأمر ينسحب على التعليم، إذ حُوِّلت الدولة إلى أداة للتوزيع على حساب وظائفها الأساسية وعلى حساب كرامة العاملين فيها، هو نهج متبع، منتظم، مدروس ومستمر، وكان من الطبيعي أن تواجه هيئة التنسيق بهذه الشراسة.
إذاً، الناحية المطلبية، بحسب نحاس، هي المحرك الطبيعي لأي مجموعة. ولا تستطيع جميع الفئات المواءمة بين المطالبة بمصالحها وبين الخيارات في الاقتصاد السياسي (مثال ما حصل مع رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية التي انسحبت من هيئة التنسيق النقابية فور حصولها على زيادة الأجر). هيئة التنسيق ورثت نتائج كل هذا النهج المتبع منذ ما بعد اتفاق الطائف، من إدارة مضروبة، إلى جيش متورم عدداً، إلى بدعة التعاقد الوظيفي. فعندما يتضح أن الموظف يتقاضى أجره من المكلفين، أي المواطنين اللبنانيين، فعلى هذه الأجور أن تحصّل من الأرباح الضخمة للكتل الريعية في قطاعي المصارف والعقارات ومخالفات الأملاك البحرية والنهرية وغيرها، وليس من جيوب الفقراء. نتيجة هذه المطالبة، جاء ردّ فعل الكتل التي قادت هجوماً مضاداً، بضرب هيئة التنسيق والتيار النقابي الذي يمثله حنّا غريب، في انتخابات رابطة الأساتذة الثانويين.

إعادة الاعتبار للأجر

يقول نحاس إنه بين عامي 2006 و2011، جرى دفق هائل من المال إلى البلاد، نتيجة ارتفاع سعر النفط والأزمة العالمية عام 2008. هذا أدى إلى ارتفاع في الناتج المحلي الاسمي بنسبة 75%. ثم انخفضت الفوائد الفعلية، في مقابل ارتفاع متسارع في الأسعار بلغ 15%، فيما بلغ ارتفاع أسعار الأصول الثابتة المحلية (ولا سيما الأراضي) نسبة تراوح بين 250 و350%. نتج من هذه المسألة توجهان: الأول التفكير بتسديد الدين العام بفعل وفرة المال، والثاني يرى في كل ما حصل محض صدفة قد لا تتكرر، لكنها فرصة سانحة لتصحيح النهج الاقتصادي المتبع.
نظراً إلى الفشل الذريع الذي أدت إليه الخيارات التأسيسية للنمط الاقتصادي الذي بدأ منذ التسعينيات، ووجود البلاد بظرف مالي (دفق الأموال) وسياسي (حكومة الوحدة الوطنية)، ظهر اتجاه يسمح بتصحيح «الخيار التأسيسي لشبه الدولة»، الذي أدى إلى تراكم الدين العام وتهديم أساسات الدولة اللبنانية. هذا التصحيح، كما يشرح نحاس، كان ممكناً من خلال عملية تحويل الموارد. فاقترح نحاس (عندما كان وزيراً للاتصالات وثم وزيراً للعمل) مشاريع قوانين تزيد الضرائب على أرباح المصارف والريع العقاري، بما يوفر كتلة من الإيرادات تستخدم في رفع نوعي لنسبة الاستثمارات العامة بهدف زيادة الإنتاجية، ورفع مستوى الأجور بشقيها النقدي والاجتماعي (التغطية الصحية الشاملة، وإعادة الانتظام إلى جسم الإدارة العامة، من خلال الأجور وإعادة التوظيف، ما يجعله غاية للشباب المتعلم، لا وسيلة لتوزيع المنافع).
حاول نحاس، بحسب شرحه، إحداث خرق من خلال استعادة الدورة العادية لإعادة النظر في الأجور، بحكم تفويض القانون للحكومة بذلك في عام 1967. ليجري تصحيح الأجور بحسب مؤشر الغلاء المعيشي. ومن باب الاستشارة، طرح الموضوع على لجنة المؤشر، فقرر الاتحاد العمالي العام مقاطعة أعمال اللجنة بهدف العرقلة، فيما أشرك نحاس هيئة التنسيق النقابية، بقيادة النقابي حنا غريب، في الحوار الحاصل لتصحيح الأجور. في هذه الفترة، بدأ أصحاب المصالح بالتحرك ودخلوا إلى المعركة بوجه السلطة، وحققوا خروقاً معيّنة: الأساتذة في التعليم الرسمي أضربوا في عام 2010 وحصلوا على 4.5 درجات من أصل 6 مطالب طالبوا بها، أساتذة الجامعة اللبنانية نفذوا إضراباً لـ50 يوماً لإقرار زودة، وبعدما أخذوها انسحبوا من هيئة التنسيق النقابية، والقضاة نفذوا سلسلة إضرابات واعتصامات لزيادة رواتبهم أيضاً.
من هذا المنطلق، رأى نحاس ضرورة إعادة الاعتبار للأجر: تحصينه قبل تحصيله. وذلك عبر تعريف الأجر، على أنه دين ممتاز على المؤسسة، ويترتب عليه مكملات الزامية من خلال أنظمة التقاعد والضمان وغيرها، وبالتالي هو كل مبلغ يدفع لقاء تأدية العمل هو أجر، بما في ذلك بدل النقل والمنح التعليمية. الأمل كان أن تحدث هذه الخطوة خرقاً في الانتظام الحاصل، لتحصين الأجر النقدي، وإرساء ما يُسمى الأجر الاجتماعي، وبالتالي إحداث اختلال كبير في المالية العامة، بما يدفعها إلى تعديل توازناتها الأساسية.