بعدما كان عدد الطلاب المسجلين في مؤسسات التعليم العالي في لبنان عام 1970 لا يزيد على 40 ألفا، اصبح عددهم حاليا نحو 190 ألفا. 86% منهم لبنانيون. ويتخرّج سنويا نحو 30 ألف طالب، 10 آلاف منهم يتخرّجون في الجامعة اللبنانية. تشير الدراسة، التي عرضها رئيس اتحاد الأساتذة في الجامعة الأميركية في بيروت، جاد شعبان، الى أن نسبة طلاب الجامعة اللبنانية مثلت 50% من مجمل هؤلاء الطلاب عام 1970، وبقيت هذه النسبة مستقرة تقريبا، مع تذبذبات (صعودا وانخفاضا) لتراوح النسبة بين 45% عام 1992 و52% عام 2003، الا انها انخفضت الى 38% عام 2011.
دراسة شعبان، التي تناولت تراجع دور التعليم الرسمي الجامعي وحجمه، ونهج الاقتصاد السياسي الذي اتّبع لتسليع التعليم في الجامعات الخاصة، أشارت إلى ان انخفاض حصة التعليم الرسمي مؤشر خطير، لافتة الى ان النساء تحولن من التعليم العام الى الخاص، أما نسبة الرجال، فبقيت ثابتة تقريبا في التعليم العام.

ما الذي حصل؟
والى أين توجّه الطلاب؟


في القرن التاسع عشر، لم يكن هناك أي جامعات رسمية أو حتى محلية في لبنان، بل ارساليات أجنبية. تأسست الجامعة الأميركية في بيروت (الكلية الإنجيلية السورية سابقا) كارسالية بروتستانتية، وتأسست الجامعة اللبنانية الأميركية (BUC سابقا) كارسالية بروتستانتية أيضا، فيما تتبع الجامعة اليسوعية لارسالية كاثوليكية. ولم تتأسس الجامعة اللبنانية الا عام 1952، كأول جامعة وطنية غير طائفية وغير تابعة لأي جهة خارجية.
يشير البنك الدولي إلى ان
نسبة نمو خلق فرص العمل لحملة الشهادات تبلغ 0%
وفي عام 1960 تأسست الجامعة العربية، عبر جمعية خيرية تابعة للطائفة السنية، وكانت لها ارتباطات بمصر (ارتبطت حينها بحركة الناصريين). حتى عام 1975، ضم لبنان 5 جامعات و7 مؤسسات تعليم العالي. وفي عام 1992 زادت جامعة واحدة و7 مؤسسات تعليم عال. اليوم هناك 24 جامعة و19 مؤسسة تعليم عال. أي إن لبنان يضم حاليا 37 جامعة خاصة، في مقابل جامعة واحدة رسمية.
يشير شعبان الى انه في الفترة الممتدة بين عام 1995 وعام 2001 جرى الترخيص لـ23 جامعة جديدة، معظمها يبغي الربح، عكس الجامعات العريقة الخمس، التي تأسست كمؤسسات لا تبغي الربح. جاء الترخيص لهذه الجامعات، وفق نظام المحاصصة القائم في جمهورية ما بعد الطائف. على سبيل المثال رخّص للجامعة الاسلامية، التابعة للمؤسسة الشيعية، كما رُخّص للجامعة الأنطونية التابعة للكنيسة المارونية، وكذا لعدد من الجامعات... أحد أبرز الأمثلة التي يتحدث عنها شعبان، الجامعة اللبنانية الدولية LIU، التي أسسها الوزير السابق عبد الرحيم مراد عام 2001، في فترة توليه منصب وزير التعليم والثقافة، وهو يرأس هذه الجامعة التي تعد أكبر جامعة خاصة في لبنان.
في عام 1992 كانت الجامعة اللبنانية تضم 45% من مجمل طلاب التعليم العالي، يليها الجامعة العربية 31%، ثم الأميركية 6%، واليسوعية 6%. في عام 2011، تراجعت نسبة طلاب الجامعة اللبنانية الى 38%، والعربية الى 6%، والأميركية 4، واليسوعية 5%، فيما استقطبت الجامعة اللبنانية الدولية LIU نحو 9% من الطلاب، وباتت حصتها مع بقية الجامعات المرخصة حديثا نحو 26% من مجمل الطلاب. جاء هذا التوسّع لما يسمّى «دكاكين التعليم العالي» على حساب نوعية التعليم في لبنان.

كلفة التعليم وأرباح الجامعات

تقيس دراسة شعبان كلفة العام الدراسي الواحد على اساس أرخص اختصاص جامعي (30 رصيدا سنويا). ليتبين أن الجامعة الاميركية تسجّل الكلفة الاعلى (15900$)، تليها اللبنانية الأميركية (15300$)، فيما سجلت الكلفة في اللبنانية الدولية نحو 4170 دولارا. وقدّر شعبان ارباح LIU بنحو 40 مليون دولار أرباح سنويا على اساس وجود 17000 طالب مسجل لديها.
تقدّر الدراسة متوسط كلفة العام الدراسي في الجامعات الخاصة بنحو 7000 دولار سنويا. وتمثل كلفة التعليم 50% من حصة الفرد من الناتج المحلي، علما ان متوسط الكلفة في الجامعة اللبنانية يقدّر بنحو 330 دولارا، ويرتفع في الجامعات المرخص لها بعد الحرب الى نحو 5000 دولار.
بحسب الدراسة، ارتفعت الأقساط في الجامعة الأميركية بنحو 60% خلال خمس سنوات بين 2008 و2013، بينما بلغت نسبة التضخم نحو 30% في الفترة نفسها، أي إن الأقساط ارتفعت ضعف معدل التضخم، من دون أي تبرير منطقي ومقنع للطلاب.
تُنفق الدولة اللبنانية نحو 160 مليون دولار سنويا على التعليم العالي في لبنان، يذهب 90% من هذا الانفاق الى الجامعة اللبنانية، ومعظمه يُنفق على الأجور. ويمثل انفاق الدولة على التعليم العالي نحو 0.6% من مجمل الناتج المحلي، بينما تنفق الاسر على هذا التعليم ما يوازي 4% من مجمل الناتج المحلي، أي إن عبء الانفاق على التعليم يتركّز اساسا على ميزانيات الاسر، علما ان الدولة اللبنانية تُنفق نحو 4% من مجمل الناتج المحلي على قطاع الكهرباء، و9% على خدمة الدين العام. يشرح شعبان أن الدولة تستطيع «اذا ما أرادت دعم التعليم»، أن تخفض كلفة الدين العام 10% فقط، لتصبح نسبته من الناتج المحلي 8%، وبذلك يمكن مضاعفة مساهمة الدولة في الانفاق على التعليم الرسمي. يقول شعبان ان «هذا الاقتراح قدّم في التسعينات، ولم يعمل به».

الأرقام بين الشائعات والحقائق

يشاع أن نسبة المتعلمين ارتفعت في لبنان، وازداد الطلب على الجامعات. ويُشاع ايضا أن لدى الجامعات الخاصة الجديدة برامج تواكب «متطلبات العصر». ولتأكيد مقولة ان لبنان يضم اعلى نسبة متعلمين في القوى العاملة يجري التركيز على ارتفاع نسبة التحاق النساء في التعليم العالي من 8.1% عام 1990 الى 47% عام 2011. الا أن هذه الأرقام تؤشر، وفق شعبان، الى ان غياب فرص العمل يضطر الناس للانتساب الى مؤسسات التعليم العالي بهذه الكثافة. فنسبة البطالة عند الفئة العمرية 15-29 تصل الى 28%. واحصائيات البنك الدولي تقول إن نسبة البطالة بين حملة الشهادات، تصل الى 14%، فيما معدل البطالة العام يبلغ 10%، أي إن حمَلة الشهادات الجامعية هم أكثر عرضة للبطالة من غيرهم! كما أن 40% من القوى العاملة التي أجري عليهم البحث، يعملون في مجالات لا علاقة لها باختصاصاتهم الجامعية، أين هي الكفاءة؟ وأين هي برامج الجامعات الجديدة؟ وخاصة أننا لا نعرف شيئا عن مخرجات العمل فيها، وعن نوعية المحاضرات التي تعطى وجودة التعليم.
برامج الجامعات ليست بالتطور الذي يسوّق له، يقول شعبان، «لم نسمع بجامعات تعلم ادارة نظم بيئية، أو الصحة أو غيرهما، لكن اذا جمعنا كم يوجد طلاب في هذه الجامعات الجديدة تدرس ادارة الأعمال والحقوق وادارة المصارف فإنهم يصلون الى 40 ألف طالب، أي 40% من طلاب الجامعات الخاصة. الرقم كبير، أين التجديد والبرامج الخلاّقة؟» يسأل شعبان. أما بالنسبة إلى سوق عمل المتخرّجين، فإن كل فرص العمل التي خلقت، تركزت في قطاع الخدمات، الذي لا يحتاج في الأساس الى تعليم جامعي. ويشير البنك الدولي الى ان نسبة نمو خلق فرص العمل لحملة الشهادات تبلغ 0%! بالنسبة إلى النساء، الالتحاق الجامعي لهن مهم جدا، لكن النساء غير مشاركات في سوق العمل، اذ إن نسبة مشاركتهن فيه لا تتعدى 25%.

دور التعليم في الحراك الاجتماعي

قبل الحرب الأهلية كان التعليم مساهما أساسيا في الحراك الاجتماعي. أي في رفع الناس من الفقر الى وضع اجتماعي أفضل. فما هي الحال اليوم؟ بحسب احصاءات عام 2005، تبلغ نسبة التحاق الفقراء بالجامعة الرسمية نحو 92%، وتنخفض الى 48% عند الأغنياء. أما في الجامعات الخاصة، فتصل نسبة التحاق الفقراء الى 8% و53% عند الأغنياء. ليتضح حصر الجامعة اللبنانية بالفقراء، والأغنياء يبتعدون عنها. وهذا مؤشر خطير، اذ ليس هذا هو الدور المرسوم للجامعات الوطنية في الدول الاخرى. حتى الجامعات العريقة، مثل الجامعة الأميركية، لم تعد تؤدي أي دور في الحراك الاجتماعي، مع دخولها في موجة تسليع التعليم. ففي عام 1993، وصلت نسبة طلاب المدارس الرسمية في الجامعة الى 10%، أما في عام 2003، فأصبحت النسبة 0.1%، وفي عام 2013 0.5 %! فأين هي رسالة الجامعة التي تأسست على أساسها؟ يسأل شعبان. أبعد من ذلك، طلاب الأميركية يفدون من 160 مدرسة، 75% منهم يأتون من 40 مدرسة، و95% من هذه المدارس متركزة في بيروت الكبرى. والحال نفسها في الجامعة اللبنانية الأميركية والجامعة اليسوعية. فهل أصبحت هذه الجامعات تخدم مدارس خاصة محددة؟ المدارس التي يتركز فيها الاثرياء؟
علامات سيطرة نزعة الادارة النيوليبرالية، أو رسملة التعليم وتسليعه، واضحة، ويمكن اعتبار الجامعة الاميركية نموذجا لما يحصل في الجامعات الخاصة الاخرى. هذه العلامات تكمن أولا في مسألة الارتفاع غير المبرر في أقساط الجامعة الأميركية، وثانيا، في ارتفاع كلفة أجور الاداريين من 8.7 ملايين دولار في 2008 الى 22.7 مليون دولار في 2012، اضافة الى مصاريف الخدمات القانونية والسفر وغيرها، وابتداع ميزانية جديدة خاصة بالحملة الدعائية، بلغت مليون دولار عام 2012، وكأن هناك من لا يعرف الجامعة الأميركية. وزادت الأكلاف الادارية 13 مليون دولار منذ عام 2007، فيما يتقاضى الأساتذة أجورا متدنية، وعقود عمل تنتقص من حقوقهم. «بدأنا نرى في الجامعة الأميركية معاشات لا نتخيلها»، يقول شعبان. ويعطي مثالا أجر نائب الرئيس للشؤون الطبية، الذي يبلغ 59 ألف دولار شهريا، «وهذا أجر لا يحلم به أهم مدير شركة في الخليج، فكيف لجامعة لا تبغي الربح أن تعطي أجرا كهذا، هل هذا مبرر؟». يسأل شعبان في الختام: نريد القيم وحقوق الانسان، أم اقتصاد السوق؟ هل نريد جامعات فيها ديمقراطية وتمثيل حقيقي؟ أم نريد المحسوبيات والريع والربح على حساب الناس؟ في المحصّلة، وفق شعبان، «من ولد في اسرة فقيرة، دخل الى المدرسة الرسمية، ثم الى الجامعة الرسمية، معاشه أدنى أو دون فرصة عمل، وبقي في لبنان. أما من ولد في اسرة غنية، فدخل الى مدرسة خاصة، ثم جامعة خاصة مثل الأميركية أو اليسوعية، وتعلم لغة جيدة، ثم هاجر خارج البلاد». ويصل شعبان الى خلاصة أن في لبنان «لبنانين متوازيين: الأول للأغنياء، والثاني والأكبر هو للفقراء. وهذا هو الحراك الاجتماعي الخاطئ». وهناك، برأيه، «لبنان ثالث نحن مُقدمون عليه، هو لبنان غير اللبنانيين، أي اللاجئين الفلسطينيين واللاجئين السوريين، الذين لن يحلموا بالتعليم، لا الرسمي ولا الخاص! وهذه طبقة ثالثة من المحرومين، وهي وصفة مناسبة للانفجار الاجتماعي».


* الدراسة الكاملة التي أعدها شعبان

للإطلاع على الدراسة انقر هنا






هجمة دوليّة على الجامعات الخاصة

"هذه المسألة مرتبطة أيضاً بصراعات دولية، فهناك هجمة عالمية من قبل القطاع الخاص على الجامعات". هذا ما تناولته ناديا العلي، رئيسة نقابة الجامعات والكليات (UCU) في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، جامعة لندن. عرضت العلي خلفية تاريخية موجزة عن تأثير خصخصة نظام التعليم العالي في المملكة المتحدة، وإضافة نزعة النيوليبرالية عليه، والتحديات التي تواجه نقابة الجامعات والكليات على الصعيد الوطني. من ضمن هذه التحديات، على سبيل المثال، التوجه نحو تعليم يركز على سوق العمل، والاستقلالية المتضائلة للجامعات، والخصخصة، والاستعانة بمصادر خارجية، ونزعة إدارية أكبر، وإدخال مؤشرات الأداء، وتجميد الأجور، واقتطاع معاشات التقاعد، وزيادة العمل المؤقت ضمن إطار التعليم العالي وفرض الرسوم على التعليم. وشرحت تجربتها في كيفية ترجمة القضايا الوطنية إلى صراعات وحملات محلية، إضافة الى معالجة حالات العجز من ناحية المساواة والتنوّع ضمن المؤسسة، تماماً كما في بقية القطاع، حيث تسود فجوات جسيمة في الأجور وتفاوتات على أساس الجنس والعرق من ناحية الترقيات وأدوار صنع القرار والمناصب العليا... تقول العلي إن الكفاح من أجل الأجر العادل في الجامعة إنما يبدأ مع الكفاح المدعوم بتنوّع ومساواة أكبر من ناحية النفاذ إلى الإرشاد الأكاديمي والنفاذ إلى الموارد، كما إلى الشبكات غير الرسمية والرسمية. وتحدثت عن الحملة ضد العمالة المؤقتة المتزايدة في التعليم العالي وظروف العمل الصعبة التي يواجهها أعضاء هيئة التدريس الذين يعملون لأجل محدّد أو بدوام جزئي.