غسان ديبة
المواطنية مفهوم عام ينظِّم علاقة الفرد بالدولة على المستويين السياسي والقانوني، وبالتالي تتصادم «المواطنية» مع الفضاء الاقتصادي «الخاص» المبني على الإنتاج والتبادل بين «أفراد» أو «عملاء» اقتصاديين (لا مواطنين) يبغون المصلحة الخاصة (تعظيم الأرباح) (الصراع الطبقي أو الاجتماعي حول المداخيل...).
من هنا تأتي الدولة، وبالأخص دور الدولة في الاقتصاد، لتكوِّن الرابط بين «الاقتصاد الخاص» و«المواطنية العامة»، وقد جاء هذا الربط تاريخياً مع تطور الرأسمالية التي خلعت الأفراد والطبقات والمجموعات من ارتباطاتهم القديمة والبالية (ارتباطات عائلية ودينية ومناطقية وثقافية كما بيّنها ماركس)، ووضعتهم في المجال الاقتصادي البحت، فقيام الدولة الذي رافق ظهور الرأسمالية أدّى إلى إقامة سياسة مالية (ضرائب، إنفاق عام)، وهذه السياسية ربطت الاقتصاد الخاص بالفضاء العام للدولة، وتحوّل الأفراد والعملاء الاقتصاديون إلى مواطنين يدفعون الضرائب ويحصلون على التقديمات الإنفاقية للدولة، وأصبحت الدولة المؤسسة الأساسية للتوزيع وإعادة التوزيع الاقتصاديين، وأصبح التطور السياسي للأنظمة يعتمد بشكل أساسي على مقدرة الجماعات والطبقات على استعمال أجهزة الدولة للتوزيع وإعادة التوزيع، فمثلاً يمكن فهم اختيار الطبقة الحاكمة لنظام الديكتاتورية أو الديموقراطية معتمداً على الكلفة النسبية بين كلفة القمع في ظل الديكتاتورية وكلفة الضرائب الأعلى على الطبقات الداعمة لها في ظل «الديموقراطية»، وبالتالي يمكن رسم بيان لتطور الأنظمة السياسية معتمداً على مقدار قيام دولة فارضة للضرائب كنظام لإعادة توزيع الدخل والثروة، وبالتالي بناء «مواطنية» ترتبط اقتصادياً بالدولة.
هذا التطور السياسي قد يشمل أشكالاً عديدة:
ـــــ قبائل متناحرة أو عصابات جوّالة + ضرائب صفر = لا مواطنية،
ـــــ ديكتاتورية يمينية + ضرائب منخفضة = المواطنية ملتبسة،
ـــــ ديموقراطية + ضرائب مرتفعة = مواطنية كاملة.
أما في لبنان فتتشابك (وتعيش معاً) هذه الأشكال المختلفة للدولة، أو بتعبير أدق تقوم أشكال مختلفة للفضاء «العام»، وقد تجذّر هذا التشابك بشكل أكبر مع انتهاء الحرب الأهلية وإقامة نظام الطائف الذي أعاد توزيع السلطة السياسية بين الطوائف اللبنانية، وبالتالي أسّس لتصارع طائفي أكبر على استعمال أجهزة الدولة للتوزيع وإعادة التوزيع الاقتصاديين. وقد ترافق هذا مع إطلاق أكبر عملية إعادة إعمار في تاريخ لبنان اعتمدت على إنفاق ضخم للدولة مع خفض كبير للضرائب، ما أدى خلال التسعينيات إلى تراكم سريع للدين العام وصل في يومنا هذا إلى أكثر من 40 مليار دولار أو أكثر من ضعف الناتج المحلي. وقد كان جزء كبير من هذا الإنفاق توزيعياً طائفياً، إن من خلال الإنفاق المباشر على المشاريع الكبرى التي تمركزت في بيروت وفي المناطق، أو من خلال التوظيف العام في الدولة وأجهزتها الأمنية والإدارية والتعليمية. وقد بدا هذا النظام الاقتصادي ـــــ السياسي لفترة طويلة نظاماً قوياً وقادراً على الاستمرار، وأدى الدين العام دوراً كبيراً في تغطية الأزمة الكامنة بين الطوائف. ولكن مع بداية الأزمة المالية للدولة التي انفجرت في عام 2001، تبيّن للجميع أن هذه العملية الإنفاقية ـــــ التوزيعية لنظام الطائف قد وصلت إلى الطريق المسدود، فانفجر الصراع أولاً بين أركان نظام الطائف، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، صار الصراع بين الطوائف، ولا سيما بعد انسحاب القوات السورية التي عملت كـ«منظّم خارجي» للصراعات الطائفية، وتجذّرت الأزمة بعد عودة الطائفة المسيحية إلى المطالبة بحقوقها الاقتصادية والسياسية. وهنا تكشّف الخلل في بناء «المواطنية» في لبنان في فترة ما بعد الحرب، وخصوصاً في علاقته بالاقتصاد، فقد قضت الأزمة الاقتصادية على «الديموقراطية التوافقية الاقتصادية» كما على «الديموقراطية التوافقية السياسية»، وتبيّن للجميع أن المواطن اللبناني لا يزال يتبع طائفته بالكامل، ولم يؤدِّ إنفاق عشرات المليارات من الدولارات على بناء الدولة في ما بعد الحرب إلى بناء «المواطنية» في لبنان.
وتجلّت مظاهر النقص في المواطنية وعلاقتها بالاقتصاد على مستويات أكثر مباشرة في اعتماد الاقتصاد اللبناني (ودخول هذا الاعتماد في الوعي المواطني) على المساعدات الخارجية، التبنّي، التعويضات، والجمعيات الخيرية الدينية والشخصانية (التي تنفق حوالى 500 مليون دولار سنوياً على «الدياسبورا» اللبنانية وأموال المغتربين من أجل الاستمرار). لكنّ هذه الأزمة تحمل في طياتها إمكانات لتخطي هذا النظام الذي يتهاوى، فتطوُّر الإنفاق العام في لبنان في فترة ما بعد الحرب و«أزمته» يمثِّلان الفرصة الحقيقية لتحوّل النظام المالي اللبناني إلى نظام يبني «المواطنية» وذلك من خلال إعادة بناء النظام السياسي اللبناني على أسس ديموقراطية علمانية تستخدم النظام المالي اللبناني لبناء المواطنية لا على أساس «الديموقراطية التوافقية» التي لم تبنِ «المواطنية» حتى الآن بسبب ارتباطها العضوي بالطائفية، فربط عملية التوزيع وإعادة التوزيع في الديموقراطية التوافقية بالصراع بين الطوائف ينهي دور الدولة في بناء «المواطنية»، وبالتالي تطلق الديموقراطية التوافقية توازناً اقتصادياً ـــــ سياسياً يضغط هذا النظام، إن لم يكن للأبد، فلفترة طويلة جداً.