كمال حمدان
ليس ثمة ما يشير إلى أن الطفرة النفطية التي انطلقت عام 2002 قد استنفدت كل مفاعيلها. فقد بلغ السعر الوسطي لبرميل النفط في العام الماضي نحو 64 دولاراً بحسب البنك الدولي، مقابل سعر وسطي دون ثلث هذا المستوى قبل أربعة أعوام. وكان سعر النفط قد لامس وسطياً عتبة 75 دولاراًَ في شهر آب 2006، ثم هدأ نسبياً أواخر ذلك العام ليستعيد منحاه الصاعد في النصف الأول من عام 2007. وبالتزامن مع هذا الارتفاع في الأسعار تضاعفت العائدات النفطية للدول المنتجة مرات عدة منذ عام 2002، حتى بلغت 510 مليارات دولار عام 2006، بزيادة نحو 75 ملياراً بالمقارنة مع عام 2005.
لا بد من لفت النظر الى جملة من الوقائع الناظمة لعالم النفط، والتي باتت ترتقي الى مستوى المسلّمات بحسب ما خلصت إليه ــ وتوافقت عليه الى حد كبير ــ مصادر عدة معنية بمتابعة الشأن النفطي، ومن بينها وكالة الطاقة الدولية ووكالة الاستخبارات الأميركية ومنظمة OCDE والاتحاد الأوروبي، ناهيك بشركات النفط الدولية العملاقة:
  • إن النفط (والغاز) سوف يبقى المصدر الأهم للطاقة على المستوى الكوني خلال العقود الثلاثة المقبلة على الرغم من الجهود الدولية المتعاظمة لتطوير البدائل التقليدية وغير التقليدية للنفط. وقد ثبت فشل الخيار النووي بديلاً رئيسياً للنفط على الأقل في المدى المتوسط.

  • إن الاستهلاك العالمي من النفط مرشح للارتفاع من نحو 85 مليون ب/ي حالياً، الى نحو 135 مليوناً في الثلاثينيات من هذا القرن، أي بزيادة قدرها 50 مليون ب/ي. وهذه الزيادة سوف تتأتى أساساً من الولايات المتحدة والصين والهند وشرق أوروبا والبلدان النامية الأخرى.

  • إن حصة البلدان العربية المنتجة للنفط (والغاز) تغطي راهناً نحو 20% من الاستهلاك العالمي، وسترتفع الى نحو 40 إلى 45% في العقود الثلاثة المقبلة، وسيتوافر ثلثا الزيادة في الاستهلاك من نفط الخليج (بما فيه العراق). وتأخذ هذه التوقعات بالاعتبار واقع التوزع الراهن لاحتياط النفط العالمي والتطور المتوقع لتكنولوجيا الاستكشاف والإنتاج وتكنولوجيا اقتصاد الطاقة، وتأخذ بالاعتبار تطوّر مصادر الطاقة البديلة وبنية أسعار النفط وبدائله.

  • إن أسعار النفط الحقيقية يُرجّح أن تواصل منحاها الصاعد على امتداد الفترة المقبلة، وذلك بالاستناد الى الأساسيات المتحكّمة بأسواق النفط العالمية. ولا يتعارض هذا المنحى مع احتمال استمرار تقلّبات الأسعار القصيرة الأجل، بتأثير من عوامل ظرفية ذات طابع تقني أو سياسي أو مالي (المضاربات في الأسواق). وربما تؤدّي الولايات المتحدة، هي الأخرى، دوراً في زيادة الأسعار انطلاقاً من رغبتها في تسريع إحلال بدائل للنفط من جهة وكونها من جهة ثانية أقل اعتماداً نسبياً على النفط المستورد من الكتل الأخرى كأوروبا والصين والهند وغيرها.

  • ما هي أهمّ التبعات السياسية والاقتصادية التي قد تنطوي عليها هذه الوقائع والاتجاهات على مستوى العالم العربي؟
    هناك مندرجات سياسية واقتصادية لهذا المشهد المستقبلي، أهمها:
    أولاً ــ إن المنطقة العربية ستبقى تحتل في المدى المنظور موقعاً حاسماً في استراتيجيات الكتل الدولية الأساسية، الملتقية حيناً والمتعارضة أحياناً أخرى. وتأتي الولايات المتحدة في طليعة هذه الكتل، وهي تمتلك أوراق قوة هائلة تشجعها على مواصلة الاضطلاع بدور مهيمن في المنطقة: تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل، استقطابها للنظام العربي الرسمي، تحكّمها بالعديد من القواعد العسكرية المنتشرة في معظم بلدان المنطقة، هذا بالإضافة الى موقعها التاريخي في استثمار نفط المنطقة. ولا تقتصر أهداف الطرف المهيمن في هذا الإطار على تأمين تدفقات إمدادات النفط الى الأسواق العالمية والحفاظ على سلامتها، بل هي تشمل أيضاً إمكان استخدام هذا المرفق أداةً للتحكّم مستقبلاً بالمنافسة الاقتصادية العاتية على المستوى الكوني بين الكتل الدولية الرئيسية.
    ثانياً ــ إن الطابع الجذري لتلك الأهداف وضخامة المصالح التي تنطوي عليها، من شأنهما موضوعياً أن يحفّزا الطرف المهيمن على إجراء ما يراه مناسباً من تغييرات بنيوية في أوضاع بلدان المنطقة، على النحو الذي يمكّنه من الإمساك المطلق بهذه الورقة الاستراتيجية. وتشمل هذه التغييرات، إذا ما تطلّب الأمر، إعادة صياغة الخريطة الجيو ــ سياسية للمنطقة، التي رسمت حدودها الأساسية اتفاقية سايس ــ بيكو قبل نحو تسعين عامًا انطلاقاً من توازنات القوى الدولية التي كانت سائدة آنذاك. وإذا كانت بعض مقوّمات هذه الخريطة قد ارتدت بعداً نفطياً في تلك الحقبة، فإن هذا البعد بالذات بات يضطلع بدور أهمّ بكثير في تشكيل معالم الخريطة الجديدة التي يجري العمل على تجسيدها. ففي المطاف الأخير لا ينفصل تاريخ المنطقة قطّ عن تاريخ تطور المشاريع التي تولّت الكتل الدولية المختلفة هندستها للسيطرة على هذا المورد الاستراتيجي الذي شاءت الصدف أن يكون متركّزاً في هذا الجزء من العالم.
    ثالثاً ــ إن الزيادة الكبيرة في إنتاج بلدان المنطقة من النفط ــ من نحو 18 مليون ب/ي راهناً إلى نحو 50 أو 55 مليون ب/ي في العقود الثلاثة المقبلة، سوف يطلق العنان لتدفّقات مالية وسلعية وخدماتية واستثمارية هائلة وغير مسبوقة، بين تلك البلدان من جهة والبلدان المستهلكة للنفط ولا سيما الولايات المتحدة من جهة ثانية. فالبلدان المنتجة سوف تكون مطالبة بإنفاق مئات بل ربما آلاف المليارات من الدولارات في السنوات المقبلة على استيراد ما تتطلبه من تجهيز وخدمات وأعمال الاستكشاف والتنقيب والحفر والتكرير والنقل البري (عبر الأنابيب) والبحري وتوسيع شبكات البنى التحتية الأساسية المرافقة لعملية تطوير طاقة الإنتاج المحلية من النفط والغاز. وإن الفائض من العائدات البترولية لدى هذه البلدان سيضاعف مرّات عدّة من قدراتها الإنفاقية والاستهلاكية، وهذا يشمل الاستثمار في أسواق المال والعقار العالمية والإنفاق على الأمن والتسلّح، ما يعني عملياً تحوّل المنطقة الى إحدى أكبر ورش الاستثمار والإنفاق والاستهلاك على المستوى الدولي، والى ساحة تتنافس فيها وعليها كبريات الشركات المتعددة الجنسية، وبخاصة الأميركية منها. وباختصار، إن «الزواج الكاثوليكي» أو «التبعية المتبادلة» أو «التبعية الأحادية الاتجاه»، سوف تنمو وتتعزّز باطراد بين طرفي هذه المعادلة في المدى البعيد.
    رابعاً ــ إن هذا السيناريو المرجّح سوف يعزّز نمو المنطقة استناداً إلى «سرعتين»، واحدة للبلدان الغنية بالموارد النفطية والمستورِدة لليد العاملة (دول الخليج تحديداً)، وأخرى للبلدان التي تفتقر الى هذه الموارد وذات الكثافة الديموغرافية العالية نسبياً (مصر، المغرب، تونس، لبنان، الأردن...). وينبغي أن لا يكون خافياً في هذا الإطار، ما تفصح عنه التقارير الدولية راهناً من معطيات تؤكد تعاظم الانحراف والخلل في توزّع الثروة والدخل بين هاتين المجموعتين من البلدان. ففي غضون ثلاثة عقود تراجعت حصة البلدان المفتقرة الى الموارد من إجمالي الناتج المحلي العربي القائم بنسبة تزيد على الثلث، فيما ارتفعت حصة بلدان الخليج بنسبة تجاوزت الثلثين وصولاً الى نحو 52% من ذلك الناتج عام 2006، هذا مع العلم أن المجموعة الأخيرة من البلدان لا تمثّل سوى نحو 8% من إجمالي عدد سكان المنطقة عموماً!! ولا شكّ في أن هذا التفاوت الحادّ وغير المسبوق سوف تكون له تبعات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية ذات سمات استراتيجية، وخصوصاً إذا ما استمرت معدلات البطالة غير خاضعة للسيطرة في مجتمعات تتميّز بمعدلات خصوبة مرتفعة بل قياسية، كما هي الحال في بلدان المنطقة.
    خامساً ــ إن «النخب» السياسية العربية، وبخاصة الخليجية منها، سوف تكون مطالبة بإجراء حساب دقيق ــ لمحصّلة الأرباح والخسائر ــ لدى مفاضلتها بين المضيّ في نموذج قائم على تركيز الثراء في جزر جغرافية ضيقة وسط عالم من الفقر والتهميش والاغتراب والتطرف، أو الانتقال الى نموذج آخر مستوحى من رؤية أكثر شمولية ومن قدر أكبر من التشابك والاندماج بين المكونات الأساسية للمنطقة. والوجهة التي سوف تسلكها عملية حسم هذه المفاضلة سوف تقرّر الكثير من المسائل الحيوية في الأجل البعيد: مدى الاستقرار أو عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في المنطقة، مدى استمرار قابلية أو عدم قابلية المنطقة لاجتذاب التدخلات الخارجية المباشرة تحت حجج مختلفة أهمها الدفاع عن منابع النفط، مدى النجاح أو عدم النجاح في توطيد مواقع للطبقة الوسطى العربية تسرّع عملية دخول المنطقة من الباب الواسع الى عالم التقدم والحداثة والديموقراطية والاستثمار المنتج، مدى القدرة أو عدم القدرة على كسب معارك مكافحة الفقر والتمييز الاجتماعي، ناهيك بمعركة ترشيد الهجرات السكانية النظامية وغير النظامية، القسرية منها والطوعية.... وباختصار تبدو المفاضلة محكومة بحدّين: إما إمعان في الاتجاه نحو منطقة مفكّكة الأوصال وشديدة الالتحاق إفرادياً وجماعياً بدول «المركز»، أو تلمّس ولو متدرج لطريق استعادة بناء القدرات الذاتية لشعوب المنطقة وتوظيف ذلك في تعزيز آليات التبعية المتبادلة والندّية كبديل لآليات التبعية الأحادية الجانب، في عالم يسوسه منطق توازن القوى على غير صعيد.