11 % من القوى العاملة في لبنان عاطلة عن العمل لمدة تقارب السنة، وفق تقرير «الحاجة إلى توفير وظائف مناسبة: دور السياسات الاقتصادية الكلية، والاستثمار، والعمل، والتعليم، وسياسات الحماية الاجتماعية» الصادر عن البنك الدولي عام 2012. واذا بقيت معدلات المشاركة نفسها سيكون عدد الداخلين الجدد الى سوق العمل سنوياً بحدود 19 الف شخص.
الحديث عن البطالة من خلال تجارب الناس، بعيداً عن الارقام والمعطيات، يكشف حجم المشاكل الملموسة التي يعاني منها هؤلاء. الغالبية الكبرى تنتظر فرصة السفر للعمل في الخارج، وعندما تأتي هذه «الفرصة» يكون هؤلاء سعيدين جداً من دون أن يدركوا أنّ تهجير الطاقات البشرية هو سياسة أساسية تتبعها قوى النظام وتجهد في تنفيذها.
لم ينفع الرجل الآلي الذي اخترعه سعيد أبي فراج كمشروع للتخرج، في إنقاذه من دوامة البطالة. الشاب الطموح أنهى العام الماضي دراساته العليا في هندسة الاتصالات خاتماً إياها باختراعٍ تحدّث عنه الكثيرون هو رجل آلي يقوم برصد الألغام وارسال إحداثيات اللغم الى الكمبيوتر من أجل رسم خريطة واضحة للمنطقة. بعد أسابيع يُكمل سعيد عامه الاول كعاطل عن العمل. يشير تقرير البنك الدولي إلى أنّ الذكور الآتين حديثاً الى سوق العمل يحتاجون إلى 13 شهراً ليجدوا عملاً.
يجسّد سعيد النموذج الأنسب للفرد الذي يطوّعه النظام إذ يقول: «قبل الأشهر الأخيرة كنت أرفض كلياً فكرة السفر للعمل في الخارج، كان لدي إصرار على البقاء هنا، لكن حالياً شو ما كان بقبل في». هكذا تدفع القوى المسيطرة الشباب باتجاه السفر للعمل في الخارج لإنقاذ نفسها من «عناصر الإزعاج» التي يمكن أن يشكّلها هؤلاء في ما لو بقوا في لبنان عاطلون عن العمل او عاملون بأجر.
يشرح وزير العمل السابق شربل نحاس آلية عمل النظام في مشكلة البطالة: «الحجة الأكبر التي يستخدمها النظام الرأسمالي في لبنان، هي ان متطلبات سوق العمل لا تتناسب مع مخرجات النظام التعليمي ما يؤدي الى البطالة». لكن هل سأل العاطلون عن العمل أنفسهم لماذا لا تتناسب المتطلبات مع المخرجات؟ أو ما هي فعلياً متطلبات سوق العمل في لبنان؟
عندما اختارت ساندي السبع دراسة الاقتصاد لم تفكّر في حاجات السوق والمهن المطلوبة، تقول: «اخترت هذا الاختصاص لأنني أحبّه». تخرّجت الشابة عام 2013 وانضمت الى جماعة العاطلين عن العمل. بناء على التجربة التي خاضتها فهمت ساندي اللعبة جيداً فقررت تصحيح خطأها، «عندما وصلت إلى مرحلة الماستر فكّرت تلقائياً بالتوجه نحو الاختصاصات المطلوبة أكثر في دول الخليج، وهكذا حصل». منذ ستة أشهر تحاول الشابة جاهدةً إيجاد عمل، علماً أنّ معدل فترة البطالة بالنسبة للإناث الآتيات الى سوق العمل أقل من الذكور إذ تبلغ نحو 11 شهراً.
يقول نحاس للشباب: «النظام يقوم بذلك عمداً بهدف تهجيركم». ما يحتاجه سوق العمل اليوم، وفق نحاس، هو عمال نظافة، عمال في محطات الوقود، نواطير، عمال بناء، عتّالة… «لكنّ الشعب العظيم لا يعمل في هذه المهن، وبالتالي يتبيّن أن متطلبات سوق العمل لا تتوافق أيضاً مع «طموحات» الشعب». إذاً مع ماذا تتوافق مخرجات نظامنا التعليمي؟ يرى نحاس انّ النظام التعليمي اللبناني يخرّج، وفق استراتيجية معدّة سلفاً، عمالاً يتناسبون مع متطلبات سوق العمل الخارجية وبالتالي «نحن جاهزون دائماً لتصدير القدرات، كما أنّ الأفراد سعيدون جداً بهذه السياسة». يتحدث نحاس عن المعادلة التي تسير بها سوق العمل اليوم، «نصدّر عمالاً لبنانيين يتطابقون مع متطلبات سوق العمل الخارجية، ونلبّي متطلبات سوق العمل اللبناني من خلال استقدام عمالة أجنبية بأجر زهيد».
عام 2007 تخرّجت داليا بشهادة معلوماتية ادارية، ولم تجد عملاً. تروي أنها عملت منذ عام 2007 حتى 2012 كمحاسبة الى أن تجد عملاً ضمن اختصاصها لكنها لم تنجح، تقول: «عندئذ قررت أن اغيّر اختصاصي فأنهيت ماستر إدارة عام 2014». لم تفلح الخطة البديلة، فداليا ما زالت الى اليوم من دون عمل تعتمد على خطيبها وأهلها لتعيش. تعتبر داليا انّ الخبرة والواسطة أهم عاملين لإيجاد وظيفة في لبنان ولها في ذلك تجارب عديدة. حالياً تسعى الفتاة الى الهجرة، فتقول: «أنا دافعة على شهاداتي 30 الف دولار وما في شغل».
ينتقد نحاس الفكرة النمطية لدى اللبنانيين القائمة على أنّ الارتقاء الاجتماعي يحصل عبر العلم، فيرى أنّ «اللبناني يقوم باستثمار كل قدراته المالية من أجل تعليم أولاده في جامعات خاصة ويصل الأمر الى بيع أرضه لتأمين ما يسمى «تعليم لائق»، لكن هؤلاء نفسهم لا يشاركون في التحركات المطالبة بتغطية صحية شاملة مثلاً، لأن مبدأ الارتقاء لديهم قائم على تحقيق مصالح شخصية ومحدودة». يستطرد نحاس أنه بسبب «هدف الارتقاء الاجتماعي» لدينا اليوم أطباء ومحامون ومهندسون أكثر من حاجة البلد بكثير، كما أنّ «هذا الارتقاء ينتهي حتماً عندما يخضع هذا الشخص لأوامر زعيمه من أجل تأمين وظيفة». ما قد لا يعرفه الشباب اليوم هو أنّ نسبة البطالة تزداد مع ارتفاع المستوى التعليمي، فوفق بيانات البنك الدولي تبلغ نسبة البطالة لدى الذين لديهم مستوى تعليم جامعي 14%، مقارنة بـ 10% لدى غير المتعلمين و7% لدى الذين يملكون مستوى تعليم أساسي. تعكس هذه النسب حاجة السوق الى عمالة غير ماهرة.
اعتماد النظام للمعادلة أعلاه لا يأتي من فراغ إنما لديه أهداف محددة أولها وفق نحاس: «الاستزلام أو تعزيز الزبائنية وما يترتب على ذلك من هدر للمال العام لمصالح خاصة، إضافة إلى تغيير البنية الاجتماعية عبر تهجير العمالة المحلية واستقدام عمالة أجنبية. عدا عن الاستغلال البشع للعمالة الأجنبية من خلال نظام الكفالة».