إلى من يهمّه الأمر من حضرات المسؤولين التربويين.تحية طيبة وبعد،
يهمّني أن أبيّن لكم الأسباب التي تدعو إلى الحفاظ على استقلالية مادة الفلسفة العربية، وذلك استناداً إلى ما يأتي:
أولاً: على الصعيد النظري:
- إن التراث العربي الاسلامي، نظراً الى تعدّد حقوله المعرفية، ووسع الحقبة التاريخية التي يغطيها، يجب أن يتمّ تقديمه من منظور فلسفي موضوعي بعيد عن التعصب والحذف والتحوير.
- ان ما تشهده المجتمعات العربية الاسلامية في زمننا الحاضر يرتّب علينا أن نبرز بوضوح مكامن العقلانية في التراث والتي تشكّل نقاط القوة فيه، حيث تجلّت عبر التاريخ أبرز المقاربات والنظريات الفلسفية إن في مجال المعرفة أو الالهيات أو الاخلاق أو السياسة.
- ان منهاج الفلسفة العامة، على أهميته، لا يسمح للتلامذة بالتعمّق في الفكر اليوناني والفكر الاسلامي على حدّ سواء، لذا من المفيد الابقاء على مادة الفلسفة العربية بشكل مستقل، لكي يتسنى للطالب تحصيل ما هو ضروري في سياق مترابط، يوفر لهم الغوص في إشكالية الفكر الفلسفي بعمق.
- ان منهاج الفلسفة العربية كما تطمح لجنة تطوير المناهج أن تقدّمه يعمل على معالجة موضوعات فلسفية شغلت الفكر في الحقبة الوسيطية كما النهضوية كما المعاصرة، الأمر الذي يسلّط الضوء على دور روّاد النهضة، كما يبرز أهمّ الانجازات الفلسفية المعاصرة، وفي كل ذلك نقض للمقولة القائلة بأن الفلسفة غريبة عن الفكر العربي، وبأنها ماتت مع ابن رشد وابن خلدون. ان هذا الهدف، يمكن بلوغه على نحوٍ أفضل في حال كانت المادة مستقلّة.
- نظراً الى أن المجتمع اللبناني مجتمع متعدّد ومسيّس وغارق في كثير من الأحيان بالتمذهب والمناحرات الطائفية الرخيصة، من الحكمة بمكان أن نترك لمادة الفلسفة العربية استقلاليتها لكي تلعب دوراً مزدوجاً في التأسيس للحوار الجدي والرصين والبنّاء، كما لمفهوم المواطن الذي يحترم الاختلاف ويطّلع عليه بموضوعية. انه بإمكانها أن تقول للتلميذ المسيحي بأن في الإسلام حضارة راقية أنتجت الكثير، وأبدعت، وواكبت المسار العالمي للفكر في حقبة معينة من التاريخ، وهي بمقدورها اليوم أن تستعيد هذا الدور. كما انه بإمكانها أن تقول للتلميذ المسلم بأن الحضارة العربية غنية بالإنجازات التي أسهم بها المسيحيون، مع الإشارة الى أن التاريخ الإسلامي ليس مبنياً على القتل والقمع والترهيب، إنما يزخر بالمحطّات الفكرية المشرقة، والأسماء النيّرة، والإنجازات القيمة التي اعترف بها الغربيون أنفسهم.
- من المؤسف أن يفاخر الغرب بأعلامه من أدباء وشعراء وفلاسفة، ويفيهم حقهم من خلال إدخالهم في منهاج التدريس، بينما نجد من يحاول عندنا التقليل من أهمية مفكرينا عن طريق اختصار انجازاتهم، ودمجها بتاريخ فكر غني يزخر بالمبدعين، وفيه ما يكفي من نتاج راقٍ لا يحتاج الى المزيد.
الفلسفة العربية كمادة مستقلة تنقض مقولة أنها ماتت مع ابن رشد وابن خلدون

من المؤسف أيضاً، أنه في حين يكرّس المستشرقون جهداً كبيراً، كما مراكز الأبحاث والجامعات الغربية، من أجل دراسة التراث العربي الاسلامي، نجد انه في لبنان يتمّ بذل الجهد المضاعف لتقريب هذه المادة من الطالب، ولإقناعه بأهميتها، وهو - أي الأستاذ – مضطر اليوم الى أن يُقنع المسؤولين التربويين بأهمية المحافظة على استقلالية هذه المادة التي من شأنها أن توفر لها هالة من الجاذبية والاحترام من جهة الطالب.
ثانياً: على الصعيد العملي:
- اذا قمنا بعملية مسح لمختلف الجامعات التي تخرّج أساتذة الفلسفة في لبنان، نجد أن هناك تفاوتاً بينها في ما يتعلّق بالتركيز على الفكر الغربي أو الفكر العربي. إذ من النادر أن نجد جامعة، أو حتى طالباً، قد انهمّ بالتركيز على الفكرين الغربي والعربي بشكل متوازٍ. وهذا أمر طبيعي نظراً الى التراكم المعرفي، وتفضيل كل جامعة، وكل طالب، فكراً على آخر. لذا من الضروري الفصل بين المادتين لإيفاء كل قسم حقّه.
- إن جعل الفلسفة العربية مادة مستقلّة من شأنه أن يخفّف على الطالب عبء التحضير للامتحانات المدرسية كما الرسمية، لأنه ليس عليه ان يدرس، لكي يُمتحن في اليوم الواحد، مضموناً مثقلاً بالنصوص والنظريات الغربية والعربية. الفصل يسهّل عليه التعاطي مع المادة، كما يسهّل على المصحح إنجاز عملية التصحيح بدقة أكثر وحرفية أكبر. لا حاجة لنا هنا بأن نذكّر أنه بمجرّد تغيير الحصة، والاستاذ، والكتاب، هناك وقع مريح على الصعيد النفسي كما على الانتاج الفكري لدى التلميذ.
- ان المدارس التي تختار أن تدرّس مادة الفلسفة باللغة الاجنبية سيكون لديها عائق فعلي يكمن في ترجمة النصوص التراثية الاسلامية الى اللغة الاجنبية. كذلك ان الأمر سيربك لجنة وضع الاسئلة في الامتحانات الرسمية، والمصححين على حدّ سواء.
أخيراً، إن في الابقاء على مادة الفلسفة العربية مادة مستقلة، خرقاً للعصبية الكامنة في النفوس، ومحاولة جادة لإفشال بناء الحواجز بين الأديان والطوائف. الفصل بين المادتين من شأنه أن يُسهم في فسح المجال أمام التلميذ كما الأستاذ للتفكّر في كيفية ترسيخ هذه المساحة المشتركة بين الحضارتين، والدينين، بعيداً عن أجواء الضغط واتباع وتيرة السرعة، من أجل إنجاز عدد كبير من الفصول، في سياق مادة واحدة تجمع كمّا كبيراً من الموضوعات والإشكاليات، وذلك قبل الموعد المحدّد للامتحان.
هدف تعليم الفلسفة في النهاية بناء الانسان، من خلال تمتين المقاربة العقلانية لدى المتعلّم، وتوسيع أفق تفكيره، وتقعيد أسس الانفتاح الفكري على الآخر المختلف في جو من الحوار العقلاني والنقاش المرتكز على الحجج والبراهين وإعادة النظر الدائمة بالفرضيات الفكرية.

* أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة