تعرفت إلى تخصص تقويم العظام في باريس بعد حادث التواء في كاحلي. كل من شهد «الواقعة» نصحني بداهةً بأن أستشير «أوستيوبات». لم أكن أعرف تماماً ماهية هذا الاختصاص، على الرغم من أني كنت قد سمعت به مرات عدة. هكذا، قصدت المعالج، وكانت المفاجأة الجميلة في اكتشافي أولاً أن هذا الاختصاص واسع ورائع، وأن الطبيب، أو المعالج الكمبودي الذي قصدته بناءً على نصيحة الأصدقاء، كان... كفيفاً. تدخل إلى العيادة وتجلس منتظراً دورك. العيادة هي في الواقع مجموعة عيادات لعدة أطباء واختصاصيين، بينهم الطبيب النفسي والمعالج العضلي (فيزيو) وطبيب التغذية والأوستيوبات. أما المدهش، فكان اكتشافي أن الجميع كانوا من المكفوفين.
يخرج المعالج بنظارته السوداء التي تُعَدّ سمة من سمات كفيفي البصر، يناديك ويمدّ يده ملتمساً من المريض المنادى أن يمسك بيده ليقوده إلى غرفة الفحص.
في البداية دهشت، لكنّ اليدين الخبيرتين اللتين أمسكتا بكاحلي لتقويمه بدتا واثقتين مما تفعلان. لم يكتفِ الطبيب الكمبودي الذي فقد بصره كما أخبرني في انفجار لغم في بلاده التي كانت في حرب مثلنا، بتقويم مفصلي، بل بحث عن السبب في أني أُكثر من «الدعسات الناقصة» كما قلت له. هكذا، تبين لدهشتي أن السبب هو في الحقيقة فكّاي.
لا تحتاج إلى رأسمال كبير: فقط عيادة أو مكان للمعالجة

الطبيب الماهر بدا لي كأنشودة جميلة تجعلك تعيد ثقتك بالطب كرسالة، خاصة أن الرجل المتواضع واليساري لم يتقاضَ مني إلا 20 يورو! لا تنسَوا أننا في باريس، لا في بيروت.
هكذا، ظل الموضوع عالقاً في ذاكرتي مقروناً بسؤال: لمَ ليس لدينا هذا الاختصاص؟ لمَ لا يُقبل الطلاب عليه؟ هناك الكثير من المعالجين الفيزيائيين، إلا أني لم أستطع أن أعثر على أوستيوبات إلا بشق النفس. فقد تبين أن «عددنا في لبنان لا يتجاوز... ستة أشخاص»، كما يقول لنا طارق توما، المُعالج الشغوف الذي قصدناه ليحدِّث طلاب لبنان الذين أصبحوا على أبواب الجامعات عن «الأوستيوباتي»، تشجيعاً لهم على دراسة هذا التخصص غير المكلف نسبة إلى بقية الاختصاصات من جهة، ونظراً إلى حاجة لبنان لمثل هذا الاختصاص الذي يجهله أغلب الناس من جهة أخرى.
يقول طارق توما إن الترجمة العربية لمصطلح «أوستيوبات» (osteopathe) غير دقيقة. «أقصد أن الموضوع ليس تقويم عظام بقدر ما هو شغل بالعظام والمفاصل (manipulation)، وهو يختلف عن شغل «الفيزيو»، لأن هذا الأخير يعمل على تحريك العضلات والمفاصل، بينما نحن نذهب ألى أبعد من ذلك».
لكن، ما الذي دفع طارق إلى هذا الاختصاص؟
يجيب بابتسامة: «كتاب اشتريته عندما كنت أدرس اختصاص المعالج الفيزيائي. كنت في السنة الأخيرة، ووجدت كتاباً يتحدث عن هذا العلم فقرأته. شغفت بالموضوع، لأنه كان مبهماً وغامضاً كعلم في لبنان. لذا، قررت بعد قراءة هذا الكتاب أن أتخصص فيه على الأصول، لا كمعلومات عامة داخل اختصاص الفيزيو. هكذا تشجعت وسافرت إلى بلجيكا وأعدت الدراسة من الأول، لستّ سنوات كاملة».
يبتسم طارق وهو يتذكر أن «الدراسة كانت ممتعة جداً، اكتشفت فيها الفارق بين التعليم في الخارج والتعليم عندنا. اكتشفت كيف يكون الأستاذ صاحب رسالة. الشغف بهذا العلم هو الذي يحمّس الأستاذ ويجعله يتقدم. وقد انتقلت العدوى من الأستاذ إليّ، فأصبحتُ شغوفاً بعملي. تحمستُ للعودة إلى لبنان من أجل أن أفيد الناس عندنا، وفي الوقت نفسه أفيد نفسي، لأن ممارسي المهنة في لبنان قليلون جداً».
ولكن ما السبب في هذه الندرة؟ يجيب الاختصاصي: «لأنه ما من جامعات لدينا مختصة بهذا العلم. هناك فقط مواد عن تقويم العظام بشكل عام من ضمن اختصاص المعالج الفيزيائي. أنا اليوم أُعطي بعض هذه الدروس في الجامعة اليسوعية من ضمن اختصاص العلاج الفيزيائي».
حسناً، فلنلخِّص: هناك ندرة بالمختصين، وهناك حاجة. فما الحل لطالب لبناني لا يريد، لسبب مادي أو غير مادي الاختصاص في الخارج؟
يجيب ببداهة: «الحل هو أن يدرس المعالجة الفيزيائية في الجامعة اللبنانية، وهي من أهم الجامعات في هذا المجال، ثم يكمل اختصاصه في الخارج، أو ــ وهذا ما نسعى إليه ــ قد نفتح فرعاً للأوستيوباتي في الجامعة اليسوعية، إن كان هناك عدد كافٍ من التلامذة». عدد كافٍ؟ نسأله، فيجيب: «أقصد بالكافي أكثر من عشرة طلاب. أصلاً أنا موجود وأستطيع تعليم معظم المواد، إضافة إلى أن الجامعة اليسوعية وغيرها تستقدم من الخارج اختصاصيين للتدريس، ولا شك في أنها ستفعل إن كان هناك طلب على هذا التخصص».
وما كلفة التخصص؟ يقول: «يبدأ بالجامعة اللبنانية فيزيو، ثم ينتقل إلى اليسوعية للتخصص. كلفة السنة في اليسوعية نحو 7500 دولار، وذلك لثلاث سنوات. لا أظن أن الكلفة تكون مرتفعة جداً بهذه الحال».
نسأله أن يشرح للطلاب محاسن هذه المهنة ومساوئها، فيجيب بسرعة: «أولاً، لا تحتاج إلى رأسمال كبير، فقط عيادة أو مكان للمعالجة. فكل شيء في هذا التخصص يؤدى باليد. لا معدات خاصة، ولا أدوية. والمريض لا يحتاج إلى أكثر من جلستين أو ثلاث جلسات، كلفة الواحدة بين خمسة وسبعين ومئة وخمسين ألفاً. وهناك شيء مهم، هو أنها مهنة يستطيع المكفوفون أن يتعلموها وأن يعتاشوا منها، إذا ما توافرت لهم كتب بلغة «برايل». أما المساوئ، فهي التعب الجسدي. أضيفي إلى ذلك جهل الناس بهذا الاختصاص المهم جداً، ما يجعل الإقبال فقط للنخبة التي تعرف أهمية الأوستيوباتي، مع أنه ليس ترفاً أبداً».
لكن أليس هناك تواصل مع أطباء العظام والعمود الفقري؟ فالعادة في الخارج أن يحوّل طبيب العظام المريض في بعض الحالات إلى الأوستيوبات، تلافياً للعملية الجراحية أو خلافه. يجيب: «للأسف لا. ربما ليس هناك ثقة بعد بمتعاطي هذا الاختصاص، لأن البعض يتعاطى تجارياً وليس طبياً مع الموضوع من الجهتين: أطباء العظام والأوستيو. بالعربي، إذا كان الطبيب يستطيع أن يصف جراحة للمريض تعود عليه وعلى المستشفى بالفائدة، فلم يرسل المريض إلى الأوستيوبات، خاصة إن كنت سأشفي الحالة بجلستين أو ثلاث جلسات؟».
وماذا عن تطور المهنة؟ هل هناك أفق قد يحلّق إليه بعيداً طالب الأوستيوباتي أو المتخرج؟
«طبعاً، خاصة مع تقدم المهنة وتطورها في الغرب والشرق الأقصى. في القديم، كانت هناك أساليب بالمعالجة فيها نسبة من الخطورة، هذه النسبة التغت اليوم لتجدد الأساليب وتطورها. هناك مجال الأبحاث أيضاً، وهو مجال مشوّق فعلاً. كذلك هناك مجال التعليم، وهناك العلاج والعناية بالمرضى. وهناك حاجة ماسة في لبنان لهذه التخصصات. ومن يحب التنوع، يستطيع التعاقد مع فرق رياضية. لأن الرياضيين هم الأكثر عرضة لمشاكل المفاصل والعظام».
نسأله بابتسامة: «يعني من الآخر: هل تفتح هذه المهنة بيتاً؟»،
بلا تردد يجيب: «أكيد. وبيت منيح كمان. وآمل أن تتطور المهنة في لبنان، لأن هناك حاجة ماسة إليها. من جهتي، أخطط لمشروع فيه توعية للمرضى على هذا الاختصاص من جهة، ومن جهة ثانية أسعى لإنشاء جامعة أو فرع يلبي طموحات الطلاب الساعين إلى هذا الاختصاص في لبنان».