في عيونه شغف بادٍ. وفي سلوكه المهني شيء عاطفي يميز من اختار مهنته بالضبط ولم يأت إليها من حاجات عملية صرفة. هو مازن حيدر، المرمم المعماري الشاب الذي أسهم بترميم مبنى ذاكرة الحرب الماثل على تقاطع السوديكو. والذي أصبح مديراً للتخصص في معهد الألبا. ولكن، ماذا يعني الترميم المعماري؟ وهل يستطيع المرء أن يعيش منه كمهنة؟ ما هي آفاق تطوره؟ وهل هي مغرية؟
شرح الاختصاص

الترميم المعماري يعني دراسة المبادئ النظرية والعملية للتعاطي مع الأبنية التراثيّة للمحافظة عليها للأجيال القادمة. ولخوض هذا الاختصاص، يفترض بالتلميذ أن يكون قد أتمّ دراسته الأولى بالهندسة المعمارية (5 أو ست سنوات حسب البلدان والجامعات) ونال شهادة الجدارة (ماستر) في الهندسة المعمارية.
يستغرق التخصص سنتين أو ثلاث سنوات حسب البلدان (في لبنان المكان الوحيد هو معهد الترميم التابع للجامعة اللبنانية في طرابلس). هذا الاختصاص يخوّل المهندس المعماري إدارة مشاريع ترميم في أُطر مُختلفة من العمارة التراثية، مثلاً العمل على تحسين الأبنية وتدعيمها أو عصرنة وظائفها الداخلية، وحتى تصميم إضافات إليها، تحافظ على التجانس بين أقسامها وتراعي تاريخها.
وعندما نقول "تراث"، فنحن نتكلم عن كلّ الأبنية التاريخيّة القديمة والحديثة، منذ ما قبل التاريخ إلى عمارة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. إذ إنّ التعاطي مع ما هو تاريخي في العمارة يتطلّب حساسيّة وشغفاً، فيعطي المرمم المعماري الأولوية لما وجد قبله على ما قد يصنعه هو اليوم.
الاتّجاه إلى هذا الاختصاص ضروري جداً، خاصة في منطقتنا، حيث لا احترام للمعالم التاريخية، ولا حتّى للتاريخ عموماً، إذ إنّه عرضة للاستباحة والتزوير والتحريف لمآرب آنية، لا لمصلحة حاضرنا اليوم.
توصل الغرب لإنجاز هذا الفصل، لكننا ما زلنا نتعاطى مع التاريخ بخفة من دون توخّي الدقّة. زد على ذلك الهدم الممنهج للتراث المعماري في بلادنا لمصالح المستثمرين. بالطبع، لن يستطيع المرمم المعماري أن «يجلّس المقتاية» كما يقال، لكن تكاثر المتخصصين في بيروت خاصة، من شأنه إيجاد صوت جديد يطالب بالحفاظ على ما بقي من الإرث المعماري في لبنان، مرتكزاً على قواعد علميّة متينة وليس على النوستالجيا والحنين للماضي.
إضافة إلى ذلك، هناك حاجة ماسّة لمتخصصين في منطقتنا الشديدة الأهمية تاريخياً، لكونها مهد الحضارات، وذلك بسبب حجم الدمار الهائل الذي أصاب سوريا والعراق مثلاً. فمن غير المنطقي، لا بل من المفجع، ألّا يُنظر به من قبل مُتخصصين يستطيعون أن يعيدوا إليه قيمته الجمالية، وأن يراعوا قيمته التاريخية، ولو بنسبة معقولة.
أمّا عن تطور التخصص والمهنة في بلادنا، فهو وارد جداً إذا وسعنا رؤيتنا للتراث، فبدلاً من أن نعتبر الإرث العثماني أو بيوت البهو الوسطي والقرميد هي وحدها تراثنا، علينا أن نعتبر أنّ حقبة الحداثة كذلك من إرثنا ومن ذاكرتنا، وأن نبدأ البحث عن أساليب تحافظ على العمارة الحديثة مع عصرنتها وتبديل وظائفها. مثلاً، أن نتّجه إلى عمارة الخمسينيات المنتشرة في بيروت، ونجرب درس أساليب إضافة مواقف للسيارات مثلاً من دون هدم المبنى، أو إضافة طبقات جديدة إلخ... أو نعمل حملة لإقناع المستثمرين بالجدوى الاقتصاديّة للمحافظة على هذه المباني، خاصة أن الناس بدأوا يعون أهمية هذه المباني والحفاظ عليها.

أسبابي ورؤيتي للمهنة في منطقتنا الخراب


قد أراني هُنا ألجأ إلى الجملة المُستهلكة التي نقولُ فيها إنّنا لم نختر مهنتنا، بل هي التي اختارتنا. لكن في الواقع «أهو ده اللي صار». فأنا من جيل الحرب، تحديداً الجيل الذي ولد في الحرب، لا الذي كان مراهقاً أو شاباً حينها. من جيل تعرّف إلى بيروت من خلال خبريات الأهل والأجيال التي سبقته. على فكرة، هناك فرق شاسع بين من ولد بالحرب ومن ولد قبلها. فهذا الأخير يذكر حالة الانتقال من السلم إلى الحرب لأنّه يعرف أن يميّز بين الاستثنائي والشاذ والوضع الطبيعي. بالنسبة إليّ كانت الدنيا من أساسها سوداء في عيني، فالحاضر الوحيد الذي أعرفه هو أسود وسيئ (الحرب)، وإذا استحضار أو تصور شيء جميل، فهو لا بد من خلال ذكريات الآخرين عن زمن جميل، أو زمن على الأقل أجمل.
تكاثر المتخصصين
في بيروت ضروري لإيجاد صوت يطالب بالحفاظ على ما بقي من الإرث المعماري
الرّابط بيني وبين قصص وروايات أهلي كانت معالم المدينة التي كنت أراها. أقصد أبنيتها وشوارعها. أرصد الأبنية حول بيت أهلي بشارع ليون بالحمرا، وأتخيلها شاهداً على الزمن الأفضل، أرسمها بحالها اليوم وأرسم غيرها على خطوط التماس المتضرّرة من القصف وأتخيّل وسط المدينة. من الصغر نما عندي الشغف بالمدينة والعمارة. ولم أكن أتخيّل نفسي أخوض تجربة مهنيّة بعيدة عن هذا الموضوع. لكنّي في الوقت ذاته، كنت أخاف من أن تفقدني الدراسة الأكاديميّة البحتة هذا الشغف، هذه الشحنة العاطفيّة وأبدأ برؤية المدينة، بيروت، من منظار علمي بحت. كان خياري أبعد عن لبنان. بدأت دراستي في إيطاليا بروما بالتحديد، لأني كنت قد درست اللغة الإيطالية ضمن منهج البكالوريا الفرنسيّة، ثانياً لأن كنت آمل بعد دراسة الهندسة المعمارية التخصّص بالترميم المعماري في إيطاليا. لحسن الحظ، إنّ أهلي دعموني مادياً ومعنوياً وساندوني بمسيرتي.
دراسة الهندسة المعمارية ثمّ التخصّص بالترميم
دراسة العمارة بإيطاليا سمحت لي بطريقة ما أن أحتفظ بولعي ببيروت. فأنا لم أعش تحولاتها في التسعينيات، لذا صارت عندي رمزاً لماضيها كأن لا حاضر لها. بمعنى آخر «ما اندعكت فيها». البُعد عن المكان يسمح لك بأن تحافظ على ذكراه. دراسة الهندسة المعماريّة عموماً بشقها النظري والتطبيقي في أوروبا، جعلتني أفهم أن البناء ومُحيطه لا يمكن أن يكونا منفصلين. فأنا لا أستطيع تصميم مبنى من دون أن آخذ في الاعتبار خصائص المكان ومحيطه، وهذا ما جعلني أتجه بعد دراستي إلى التخصص بالترميم، ليس في أي مكان، بل في روما، في إيطاليا. لو درست الهندسة المعمارية في لبنان، لأعطتني أُلفة أكبر مع متطلبات المهنة العمليّة لجهة التعاطي مع المهندس المدني مثلاً، الكهربائي، رخص البناء... إلخ. لكنّي بتجربتي تقربت أكثر من الجانب النظري والمواضيع المتعلقة أكثر بالعمارة القديمة. في أوروبا مفهوم الوقت مُختلف، أي إن احترام العمارة القديمة واجب تصونه القوانين، وقد اكتسبته الأجيال كأمر مُنزَل لا مجال للمساومة حوله، فالإرث المعماري حاجة وطنيّة لربط الأجيال ببعضها وتأمين التواصل بين أفرادها. الأمر مختلف عندنا في لبنان وفي الشرق عموماً. لكوننا لم نعش نضجاً تاريخياً، أي إنّنا ما زلنا نرى التاريخ كسبيل لمراجعة الحاضر، أداةً لدعم الحاضر أو لتغييره. لا ننظر إلى الكنيسة القديمة كمعلم يُذكّر بحقبة مُعيّنة، وبالتالي نحافظ عليه كما هو، بل نراها كمعلم يرمز فقط إلى الديانة وممارسة طقوسها. مثل آخر: المباني التي سكنتها شخصيات تاريخية لها معنى في تاريخنا لا نقيمها من هذا المنظار بقدر ما ننظر إليها ونتساءل عمّا إذا كان المبنى جميلاً بمعاييرنا الحاليّة. «يا ما كنائس قديمة انهدمت ليبنى مكانها كنائس أكبر، أو (لنراعي 6 و6 مكرر) مقامات تمّ تغييرها والتعديل بها لتتكيّف مع معايير اليوم من دون النظر إلى المعنى الكامن وراء قيمتها التاريخية. كل ذلك دفعني إلى التخصص بالترميم المعماري وبإيطاليا كمان».

التخصص بالترميم

العمل في هذا الحقل سيف ذو حدّين. فمن ناحية عدد المهندسين المعماريين المتخصصين بالترميم قليل، لذا هناك فرص عمل كثيرة، خاصة في المستقبل القريب، إذا ما انتهت الحرب في سوريا واستقر الوضع في لبنان (نوعاً ما). ولكن للأسف هناك استسهال، وهناك من يلجأ إلى معماريين من غير المتخصصين بالترميم، لأنّه في الغالب هناك استسهال وقلّة تقدير للمهنة ولخصائصها. مدّة دراسة العمارة ست سنوات والتخصص بالترميم المعماري سنتان.
عملياً، اشتركت في عدّة مشاريع ترميم في الحقل الخاص والعام في إيطاليا وفي لبنان، كما في مرحلة الدراسة لمتحف «بيت بيروت» ومبنى «جريدة الأوريان» في وسط بيروت الذي سيحافظ إلى حدٍّ ما على ذاكرة الحرب، وإن بنسبة قليلة. كذلك شاركت في كثير من المشاريع في المجال الخاص كترميم بيوت وشقق سكنية من حقبة الانتداب في بيروت وطرابلس وصيدا ومناطق أخرى.
طبعاً في لبنان الأمل أن نستطيع كمتخصصين أن ننتزع دوراً أكبر في فرض قانون يحمي الأبنية التراثية والمساهمة بتوعية الناس على أهمية الإرث المعماري والترويج لأهميّة إرثنا الحديث، أي من فترة الانتداب والاستقلال.