لا يحق للقضاء الشرعي أن يوقف أحداً. القضاء المدني هو الذي يتخذ هذا الإجراء، وإن كان يتخذه أحياناً استناداً إلى أحكام ترد من المحكمة الشرعية. لكن، ما يعرفه القاضي جان قزي، هو أن «الضابطة العدلية مرتبطة حصراً بالنيابة العامة وبالقضاء المدني». ولكن يجب أن يكون واضحاً أنه لا مفر من «حظيرة» الطائفة؛ بمعنى أن الأحوال الشخصية في القانون اللبناني ستتبع دائماً للطائفة. القيد مُحكم، وإن كان القضاء المدني يمكنه التدخل، أحياناً، لمنع حدوث «مهازل» أخلاقية. في إحدى محاضراته، أشار القاضي جوزيف قزي إلى حادثة وقعت حين كان محامياً عاماً استئنافياً في بيروت. ذهب العسكر إلى منزل الأم لتطبيق الحكم، فبدأ الطفل بالبكاء. عندئذٍ أشار القاضي بالعودة إلى المحكمة الشرعية لحل القضية. اجتهاد قزي في هذه المسألة هو اجتهاد عصري، ينحاز إلى الأمومة، ويحاول تأطير اجتهاده قانونياً، بإشارته إلى ضرورة أن يكون «التنفيذ رضائياً»، كما يقول. حسب قزي «90% من حالات الزواج في المجتمع المدني تحلّ بطريقة حبيّة». ولا يبالغ القاضي جان قزي في الرقم، بل يتوقف عنده كمؤشر يجب الوقوف عنده لتفسير طبيعة «المعاملات» تحت سقف القانون المدني، واحتمالات «الاجتهاد» والتلاعب تحت السقوف الأخرى. في حادثة أخرى، أحد الأشخاص حاول استعراض «مدنيته» أمام قزي، فقال: «أزوج ابني دينياً وابنتي مدنياً». ظن أنه هكذا يحمي ابنته من أخطبوط المؤسسة الدينية، ولكنه لا يعلم أن حديثه بطريركي أكثر من المؤسسة نفسها. «يزوّج»، بمعنى أنه «يمنح»، كما لو أن قرار القبول عائد له، ولرجولته، ولسلطة الرجولة، في المجتمع الذي يظن نفسه متقدماً.أخيراً، ظهرت تحولات تمثلت في رفع سنّ الحضانة لدى الطائفة السنيّة من تسع سنوات للفتاة وسبع سنوات للصبي إلى اثني عشر عاماً لكل منهما، لفترة أطول لمصلحة الأم. وتوقف «الاجتهاد» الشيعي لعدة أسباب. بين الناس كلام كثير عن فساد المحاكم الشرعية الجعفرية. أيام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، كان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى تقريباً على حياد، وبعيداً عن «شدّ الحبال» السياسي. ويقول العارفون إن شمس الدين حاول جاهداً تحصين المجلس من التدخل السياسي، ومن المحسوبيات المرتبطة بالسياسة. عقاب صقر وأمين وهبي وإبراهيم شمس الدين هم أعضاء في المجلس عملاً بالقانون، ولكن الواقع أن المجلس في طريق المطار، والطريق طويلة إلى الضاحية الجنوبية بالنسبة إلى صقر ووهبي. عملياً، تراجعت استقلالية المجلس تدريجياً بعد رحيل شمس الدين، ويُحكى عن صراع دائم في أروقته بين القطبين الشيعيين الكبيرين، حزب الله وحركة أمل. وهذا مبحث طويل. ولكن المؤكد أن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لا يمكنه التدخل في قرارات المحكمة الجعفرية إطلاقاً، لأنها مستقلة من الناحية القانونية. يمكن أن يحدث تدخل «على الطريقة اللبنانية»، بمعنى أن العلاقات بين أفراد المؤسستين قد تلعب دوراً، ولكن ليس هناك أيّ إطار قانوني لهذه العلاقة لكي تكون مباشرة، وهذا عكس السائد بين الناس. إلى حدٍّ ما، تشبه العلاقة بين المؤسستين العلاقة القانونية ــ الطبيعية بين مجلس النواب ومجلس الوزراء، بحيث إن الأول يملك صفةً تشريعية، والثاني صفة تنفيذية. مهمة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، من الناحية القانونية، هي إصدار التشريعات، أما المحاكم فمهمتها إصدار الأحكام بمضامين مطابقة للتشريعات. وهذا يعني أن ثمة علاقة، ولكنها علاقة مؤطرة قانونياً، على نحوٍ يبيح للمحاكم إصدار الأحكام استنسابياً بما «أتيح لهم» من سلطة. وفي الحالتين، حالة المجلس والمحاكم، لا يهبط القضاء بالباراشوت. ثمة آلية لا تخلو من الالتباس.
التمييز بين القضاءين الشرعي والقضائي هو تمييز إداري «مفتعل»

شروط اختيار القضاة، في ظاهرها، تشبه ما يحدث في القضاء المدني. بمعنى أن الدخول إلى «ملاك القضاء الشرعي» يحدث بعد أن ينجح المترشح في مباراة يجريها مجلس القضاء الشرعي الأعلى، وفق معايير يصنّفها المجلس نفسه، لجهة معدلات العلامات في المباراة. وهناك تفاصيل تقنية، حيث إن المواد الأساسية في الامتحان ــ بطبيعة الحال ــ يجب أن تكون الفقه، الشريعة، والقانون. وطبعاً، يكفي أن تكون الدراسة «حوزوية». الجامعة ليست ضرورية. وفقاً لقانون المحاكم الشرعية، المادة 450 تحديداً، يجب أن يكون المترشح لبنانياً، وسنّه بين الخامسة والعشرين والثامنة والأربعين، متمتّعاً بحقوقه المدنية والسياسية، غير محكوم من مجلس تأديبي بما يخلّ بالشرف. وهذه مفارقة أولى، أي الاعتراف بالقضاء المدني اللبناني وتفوّقه المفترض على القضاء الشرعي. القانون المدني مرجع لنظيره الشرعي في تحديد الأهلية، وهذه المفارقة تصلح لأن تكون مدخلاً جدياً للسؤال عن جدوى القضاء الشرعي من أساسه، من الناحية القانونية، ما دام الأصل موجوداً، وهو القضاء المدني. المفارقة الثانية، هي العلاقة بين النجف الأشرف وقم الإيرانية. فالقانون يوجب على المترشح أن يكون قد حاز شهادة الدروس الدينية العليا أو إجازة في الحقوق من كليةٍ تدرّس فيها أحكام الشريعة الإسلامية. ساد لوقتٍ طويل أن تكون هذه الكلية في النجف، وليس في قم. لكن لا يخفى على أحد أن قم صارت تلعب دوراً مرجعياً في تخريج رجال الدين الشيعة. وهذا ما يحيل مجدداً إلى التجاذب بين القطبين السياسيين، حزب الله وحركة أمل. الالتباس، أو «الحزورة» ليست هنا. القانون نفسه «مثقوب». وفقاً للمادة 452: «يعيّن كلّ من رئيسي المحكمتين الشرعيتين السنّية والجعفرية من بين مستشاري هاتين المحكمتين أو من بين القضاة الذين بلغوا الدرجة السادسة وما فوق، أو من بين العلماء الشرعيين المشهود لهم بالتفقه والعلم، شرط أن لا يكون أيّ منهم قد تجاوز الثامنة والأربعين من عمره. ولكي يكون من العلماء الشرعيين المشهود لهم، لا بدّ من أن تكون الشهادة إما من المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف أو من الهيئة الشرعية المركزية في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بتوقيع رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أو ممن يشهد له بضعة من كبار علماء الطائفة بالفقاهة والاستقامة». وهذه «الشهادة» تتخذ صيغة مطاطة، وبرأي كثيرين، هي «باب خلفي» لتعيينات سياسية، فضلاً عن كونها تربط مصائر أحوال لبنانيين كثر بمرجعيات خارج البلاد (النجف الأشرف). وهو ربط قانوني «موصوف»، وليس ربطاً سياسياً على الإطلاق.
أكثر من ذلك، التمييز بين القضاءين الشرعي والقضائي هو تمييز إداري «مفتعل»، إذ تعود المحاكم إلى ملاك رئاسة المجلس الوزراء، بينما يعود القضاء العدلي إلى وزارة العدل حصراً. والقول إنه «مفتعل» لا يأتي من فراغ، بل هذا التمييز، في الأساس، حدث لأن رئاسة الوزراء يشغلها «مسلم». وفيما يعتقد كثيرون أن «طائفة الرئيس» مسألة دستورية، الحال أنها ليست كذلك، بل هي مسألة عرفية. والحال أن التمييز لم يكن لفصل القضاءين أحدهما عن الآخر، بل لكي لا يكون هناك سلطة لشخص «غير مسلم» (وزير العدل) على المسلمين. مأسسة طائفية موصوفة. وأمس سجنت فاطمة بسبب الخلل في العمل في هذه المؤسسة وبين هذه المؤسسات مجتمعة. ولكن سجن الناس ليس مسألة «مزاج». في جميع الحالات، يتطلب سجن شخصٍ ما وجود جرم جزائيّ حسب قانون العقوبات. ما هو الجرم الجزائي الذي ارتكبته فاطمة؟ دعونا نخمّن قليلاً: الانتماء إلى «طائفة» في دولة طوائف؟ على الأرجح. هذا جرم جميع اللبنانيين، وقد حان موعد «التوبة».