"عذّبناك كتير يا حبيبي، روح الله معك. ونحن؟ نحن الله معنا... من بعد ما رحت يا غازي، مين رح يتذكّرنا هلق... ديعانك يا ابني، كم حرقة بعد بدنا نتحمّل". بهذه الكلمات ودّع أهالي المخطوفين والمفقودين والمختفين قسراً خلال الحرب اللبنانيّة رئيس هيئة "سوليد" غازي عاد، من أمام خيمة اعتصامهم في حديقة "جبران خليل جبران" التي نصبوها في نيسان 2005 لدبّ النبض في قضيتهم المنسيّة، مذ أن قرّرت الدولة اللبنانيّة طيّ صفحة الحرب وإقرار قانون العفو العام، مفضّلة عدالة انتقائيّة تسير بها نحو مستقبل محفوف بحروب متجدّدة، بدلاً من عدالة انتقاليّة تعبّر بها إلى سلام حقيقي.
امتزج صوت البكاء مع عبارات الترحيب بـ"البطل" الذي رحل قبل حلّ القضية
في تلك الحديقة التي اعتاد غازي عاد التوجّه إليها يومياً، قبل أن يخفض عدد زيارته إلى يومين أسبوعياً بعد فكّ الاعتصام منذ سنة، كان لقاء الوداع. انتظر الأهالي غازي منذ الصباح الباكر. في العادة، كان يسبق الجميع، لكن هذه المرّة أتى متأخّراً. استغلوا لحظات الانتظار لتزيين الساحة بأكاليل الورد الأبيض وتجهيزها بصوره، علّقوا واحدة على الخيمة إلى جانب صور المفقودين، ولم ينسوا ترك صورة أيضاً إلى جانب نصب أوديت سالم (توفيت دهساً قبل أعوام أمام مدخل الحديقة، هي التي فقدت ولديها ريشارد وكريستين خلال الحرب)، قبل أن يطلّ عليهم محمّلاً بنعش ملفوف بالعلم اللبناني.
رغم الإصرار على التماسك والابتسام، كما كان غازي دائماً، إلّا أن الدموع خانت الجميع. بكاءٌ ممزوج مع عبارات الترحيب بـ"البطل" الذي رحل قبل أن تحلّ قضيتهم. لقد فقد الأهالي أخاً وأباً وحتى ابناً جديداً، فقدوا من كان بلسماً لجراحهم التي لم تلتئم منذ أربعين عاماً، ومن سلّحهم بالأمل والعناد لمتابعة مسيرة النضال حتى معرفة مصير أولادهم. تحوّل غازي عاد، نتيجة نضال استمرّ 27 عاماً، إلى ابنٍ ثانٍ، وأخٍ ثانٍ، وأبٍ ثانٍ، لكل عائلة فقدت أحد أفرادها، فهو رغم أوجاعه، كان الأقرب لهم، يسأل عنهم ويحمل معه همومهم اليوميّة وأفراحهم وأتراحهم.
في تلك الحديقة التي حوّلتها خيمة أهالي المفقودين شاهداً على جراحهم وذاكرة حيّة لقضيتهم، تُليت الصلاة على راحة نفس غازي عاد، قبل أن يعلن النائب غسان مخيبر يوم الأحد 27 الحالي، موعداً للقاء مجدّداً في الحديقه نفسها، "لتكريم غازي وتقديم وعد له بأن لا تموت القضية، رغماً عن كلّ من يريد لها أن تفنى".
تحدّثت نتالي عيد، شقيقة المفقود جهاد عيد، باسم أهالي المعتقلين في السجون السوريّة، فوصفت غازي عاد بـ"الأخ الذي يصعب فقدانه، هو الذي كان يزور الخيمة يومياً ولا يملّ، حتى خجلنا من تقصيرنا"، مضيفة: "غازي مرجعنا، وهويتنا، وقضيتنا".
أمّا رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين وداد حلواني، فعزّ عليها الكلام عن رفيقٍ اعتادت "الكلام معه والتخطيط وإعلاء الصوت معاً"، مشيرة إلى أنه "تسلّل بصمت فجر الأربعاء، كي لا يزعج أحداً كعادته، رغم أنه وعدني بأن لا يغدرني ويتركني". وبعيداً من ترداد مزايا رفيق النضال، الذي كتب وسيكتب عنه كثيراً، فضّلت حلواني التذكير بالقضية التي كرّس ذاته لأجلها دون أن يكون له مفقود من أسرته، وبضرورة تحرّك الدولة وإقرار قانون المفقودين وإنشاء الهيئة الوطنيّة المستقلّة، وحفظ عيّنات الحمض النووي قبل فقدان المزيد من الأهالي، وفقدان أي دليل لهوية المفقودين، مشيرة إلى أن "قضية المفقودين، معتقلين تعسفاً أو مخطوفين أو مختفين قسراً، لم تكن "غنوجة" الزمن الرديء، بل ضحية القمع والتهميش والاستلشاق. لكننا سنستمر بالمطالبة لمعرفة مصيرهم وخصوصاً في هذا العهد الجديد الذي نعاك سيّده بكلمات لامست حزننا، هو المطّلع على ملف المفقودين، وموقفه مُعلن حول أحقيّته. سنكمل لو أن الحمل زاد على كتفي برحيلك، لأننا أصحاب حقّ، ولن نتخلّى عنه".
بعد إلقاء السلام الأخير، حمل نعش غازي عاد مجدّداً على الأكتاف، لينطلق في موكب إلى مسقط رأسه، حيث كان الوداع الأخير.