«معاناة» الكهرباء «حقيقية»، يعيشها المقيمون في لبنان ساعة بساعة كفاجعة متواصلة، تذكّرهم على الدوام بما ابتلوا به منذ أن ارتضوا سلطة عليهم يديرها تحالف أمراء الطوائف وأصحاب الثروات. لا يمكن إنكار الواقع التعيس، ولا يمكن إنكار الكلفة الهائلة التي يرتبها على المجتمع عموماً، ولا سيما الفئات الفقيرة والمتوسطة الدخل، التي تضطر الى تحمّل كلفة الاستعاضة عن الدولة على حساب مستوى دخلها ومعيشتها.
هذا واقع حقيقي، لا يغيّر فيه تبرير من هنا أو سبب هناك أو تحميل مسؤولية لهذا أو ذاك. التعاسة واقعة ولا تفعل الوقائع والتفاصيل سوى زيادة منسوبها ووقعها وكلفتها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاًَ.
لكن، لا مفر من رفع منسوب هذه التعاسة في ظل «الهجمة» الشرسة، المتجددة الآن، من أجل فرض «خصخصة» الكهرباء، بوصفها الخيار الوحيد لاستعادة الناس الحق البديهي المسلوب: كهرباء 24 ساعة على 24 ساعة. هل هو خيار وحيد فعلاً؟ لنمعن قليلاً في بعض الامثلة الحاضرة اليوم:
يحظى الناس في لبنان حالياً بنحو 12 ساعة من الكهرباء يومياً، مستمدة من إنتاج مؤسسة كهرباء لبنان. ليس الجميع سواسية في ذلك، إذ إن بيروت الادارية تحظى بنحو 21 ساعة يومياً، وهناك قائمة طويلة من الاستثناءات، التي يحظى بها بعض الاشخاص النافذين وشركات كبيرة محظوظة، منها مولات وفنادق ومنتجعات ومعامل ترابة وقصور وبنايات... الخ. لو جرى اعتماد مبدأ التوزيع العادل، لكان جميع الناس قد حظوا بنحو 15 ساعة من كهرباء الدولة. هذا يمكن أن يحصل فوراً، وهو مسألة جوهرية، إذ إن أسعار كهرباء الدولة مدعومة من الموازنة العامة. هذا الدعم الذي يناله مستهلكو كهرباء الدولة بقرار صدر عام 1994، ولا يزال سارياً، يسميه دعاة الخصخصة خسائر تسجلها مؤسسة كهرباء لبنان أو عجزاً، ولكنه في الواقع، قناة من قنوات التوزيع التي اعتمدتها الدولة بحجة دعم ميزانيات الأسر. تم تحديد الاسعار وتثبيتها عندما كان سعر برميل النفط يبلغ 30 دولاراً وسطياً، وكانت التغذية الكهربائية قد تأمنت على مدار ساعات اليوم في معظم المناطق (بين عامي 1995 و1998)، إلا أن السلطة القائمة قررت أن تتوقف عن أي استثمار عام في زيادة إنتاج الكهرباء مع بداية انفجار أزمة الدين العام اعتباراً من عام 1997، وربطت القطاع كلّه بالخصخصة.

تم إنجاز معملين جديدين في الزوق والجية قبل 14 شهراً ولم يجرِ تشغيلهما
منذ ذاك الوقت ارتفعت أسعار النفط وارتفع عدد السكان وارتفعت الحاجات، وبالتالي ارتفعت قيمة الدعم لأسعار الكهرباء وباتت المؤسسة رهينة التحويلات من الموازنة التي بالكاد تكفي لتسديد ثمن الوقود المطلوب لتشغيل معامل الانتاج. ظهرت هوّة كبيرة بين حاجات الاستهلاك والقدرة الانتاجية، وجرى سدّ هذه الهوة عبر نموّ قطاع واسع من مشغلي المولدات الخاصة، إلا أن الهوّة لم تكن حقيقية لفترة طويلة، بل كانت مفتعلة، بقرار، إذ إن تنامي كلفة الفاتورة النفطية كان يستنزف قسماً من النقد الاجنبي المتاح، بسبب الاضطرار الى تسديد ثمن المستوردات النفطية بالدولار، ما دفع مصرف لبنان الى فرض «تقنين» للإنفاق العام بالعملات الاجنبية، للحفاظ على مستوى عال من الموجودات الخارجية لديه، وهو ما جعل المؤسسة في أحيان كثيرة تطفئ قسماً من الطاقة الانتاجية المتاحة وتحرم المستهلكين منها! في ظل هذا الاستثناءات الواسعة من «تقنين» الكهرباء، صار الدعم نفسه موزعاً بصورة غير عادلة ابداً، إذ إن قاطني بيروت الادارية والشركات الكبرى وأصحاب النفوذ المستثنون يستأثرون بجزء مهم من الدعم للأسعار نتيجة استهلاكهم كميات أكبر من الطاقة الموزعة عبر مؤسسة كهرباء لبنان، وهذا ينطبق ايضاً على أصحاب الدخل الاعلى الخاضعين للتقنين الذي يستهلكون كميات أكبر من الكهرباء من الفقراء. وبدلاً من أن تتحمل السلطة مسؤوليتها في تأمين الكهرباء للجميع على مدار ساعات اليوم وبأسعار تأخذ بالاعتبار شرائح الدخل، ذهبت الى تعميق الازمة عبر تشجيع ما يسمى «سرقة الكهرباء»، إذ إن 40% تقريباً من الطاقة المنتجة في معامل المؤسسة لا تجري فوترتها، منها 15% يُطلق عليها صفة «الهدر الفني»، أي هدر الطاقة الموزعة بسبب تردي شبكات النقل والتوزيع وعدم الاستثمار في صيانتها وتطويرها. لو جرى الاستثمار في الشبكة لكان الناس قد نعموا بنحو 16 ساعة تغذية كهربائية، ولو جرت فوترة كل الطاقة الموزعة لكانت كلفة دعم الاسعار قد انخفضت.
ليس هذا فحسب، توجد اليوم امكانية فعلية، لا نظرية، لزيادة 3 ساعات، على الاقل، ليصبح متوسط ساعات التغذية نحو 18 ساعة يومياً، على أساس عدالة التوزيع وإلغاء الاستثناءات. وقبل معالجة الهدر الفني وغير الفني، فقد أنجزت الدولة إنشاء معملين جديدين في الزوق والجية، الاول بقدرة 193 ميغاواط والثاني بقدرة 77 ميغاواط. انتهت الاعمال منذ مطلع عام 2016، إلا أنهما لم يوضعا في العمل على الرغم من مضيّ نحو 14 شهراً من جاهزيتهما. هذا التفصيل مهم، إذ يجري تعطيل تشغيل المعملين الجديدين بسبب الصراع على الشركة الخاصة التي ستحظى بعقد الصيانة والتشغيل. أهمية هذا التفصيل لا تنحصر بتفويت زيادة ساعات التغذية على المقيمين وتخفيض كلفة اشتراكات المولدات المرهقة لأكثريتهم، بل في التنبيه الى زيف الادعاءات أن الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص هما الحل. فما يجري من صراع بين المصالح الخاصة هو ترجمة فعلية للمعنى الحقيقي لما يروّجون له على أنه الحل. لقد جرى تلزيم عقد صيانة وتشغيل المعملين الى شركة يمثلها رجل الاعمال تحسين خياط، بمبلغ يلامس 108 ملايين يورو لفترة 5 سنوات (من دون الضريبة على القيمة المضافة)، إلا أن وزير المال، علي حسن خليل، رفض فتح الاعتمادات المطلوبة، وأحال الملف الى التفتيش المركزي للتحقيق في الأسعار المرتفعة، علماً بأن رجل الاعمال قاسم حمود سعى للفوز بهذه الصفقة، وقدّم عرضاً أدنى، ولكن بعد فوز شركة خياط!
أيضاً، يمكن الآن رفع ساعات التغذية بمعدّل ساعة ليصبح المتوسط 19 ساعة من خلال زيادة استجرار الطاقة من البواخر، إلا أن ذلك لم يحصل على الرغم من تمديد عقد الباخرتين الموجودتين في لبنان لسنتين إضافيتين. الطاقة الاضافية متاحة بجد، إلا أن هناك سلوكاً سادياً يمنعها عن المقيمين، حرصاً على بقاء خيار الخصخصة خياراً وحيداً. على فكرة، البواخر هي أيضاً شراكة مع القطاع الخاص، وتكلّف الخزينة مبالغ طائلة.
لائحة الامثلة طويلة، وكلّها تدل على أن الشراكة مع القطاع الخاص قائمة بالفعل، ولكنها لا تنفع الا الفائزين بالعقود الذين يراكمون أرباحاً جمّة على حساب المقيمين في لبنان، من دون أن ينال هؤلاء حقهم الكامل في الكهرباء. أخيراً، وليس آخر الامثلة، جرى تعطيل نتائج مناقصة إنشاء معمل جديد في دير عمّار. هبّ نواب تيار المستقبل في المنطقة ضد المشروع، ورفض وزير المال فتح الاعتمادات لتسليم الشركة الفائزة موقع العمل. صحيح أن هناك إشكالية تتعلق بعدم وضوح العقد لجهة من سيتحمل كلفة الضريبة على القيمة المضافة، إذ إن الشركة الفائزة تحصّنت بالعقد المبهم في هذه الناحية، وأصرّت على تحميل الدولة قيمة الضريبة، وهو أمر غير جائز، ولكن في الحصيلة لم يجر تنفيذ المشروع الذي كان مخططاً أن يكون منجزاً اليوم، ويؤمن 700 ميغاواط إضافية، أي أكثر من 4 ساعات تغذية إضافية، ليصل متوسط ساعات التغذية على أساس مبدأ التوزيع العادل الى 23 ساعة يومياً. المفارقة أن قيمة العقد بلغت 360.9 مليون يورو، ما يعني أن قيمة الضريبة على القيمة المضافة المتنازع عليها تبلغ 36 مليون يورو. اليوم تواجه الدولة مطالبة الشركة بتعويضات تبلغ 320 مليون دولار، ويجري التفاوض مع الشركة على تخفيض قيمة هذه التعويضات أو القبول بتنفيذ العقد، إلا أن المفاوضات باتت صعبة، إذ إن الشركة باتت قادرة على الفوز بتعويضات تفوق أرباحها المقدرة من المشروع، من دون أن تكون قد قامت بأي عمل. وهذه أيضاً تندرج في إطار الشراكة مع القطاع الخاص.
ما ورد أعلاه ليس القصة كاملة، بل مجرد أمثلة عن تفاصيل ووقائع تجري الآن. القصة الكاملة فيها ما هو أعظم، والأمثلة المذكورة هي للدلالة فقط على واقع قائم بالفعل، حيث الشراكة مع القطاع الخاص هي النموذج الوحيد للعمل، ومع ذلك لا تحقق الوعد بكهرباء على مدار ساعات اليوم، ولا تخفض الكلفة، لا عن الناس ولا عن خزينتهم العامّة. هذه الشراكة التي يحوّلها دعاة الخصخصة الى «ايديولوجيا»، لا تعني إلا ما جرى في مشروع مقدّمي الخدمات من الشركات الخاصة، إذ جرت خصخصة الجباية والتوزيع، وعلى مدى 4 سنوات لم تتحسن الجباية ولم يتحسّن التوزيع، وكل الاهداف التي جرى التسويق لها لتبرير عقود هذه الشركات السخية، التي تصل الى 800 مليون دولار، لم تتحقق، ومع ذلك جرى التمديد لها، من دون حتى الرجوع الى مجلس الوزراء، ولو بالشكل.
نعم، في الواقع القائم التعيس، كما هو، كان بإمكان المقيمين في لبنان أن ينعموا بتغذية كهربائية على مدار ساعات اليوم. ولكن لو سُمح بذلك، ما كان ممكناً إبقاء الخصخصة واقعة وجعلها خيار الناس ومطلبهم... على الرغم من الكلفة الباهظة جداً جداً، التي نسددها من أجل أن يراكموا المزيد من الأرباح.