الفساد في لبنان أكبر من مشكلة إدارية، فتاريخه بمعنى ما هو تاريخ النظام السياسي نفسه، المتأرجح ما بين الأحادية المخففة بالشراكة، والشراكة المشوبة بالأحادية.ولا يمكن فهم الفساد ولا تفكيكه من دون فهم آليات عمل النظام نفسه. المركزية السياسية في حقبة ما بعد الاستقلال، أوجدت ظاهرة الفساد الخاصة بها والمتناسبة مع نظام حكم رئاسي.

لا يُنكر أن الإدارة العامة تميزت في ذلك الوقت بقدر مقبول من الكفاءة مقارنة بأحوالها اليوم، مع أنها كانت تنفذ سياسات اتصفت بالظلم الاجتماعي. لقد نجحت على سبيل المثال في وضع الإصلاحات الشهابية موضع التنفيذ بمدة زمنية معقولة، فقدمت خدمات التعليم إلى محرومين منها، وأوصلت البنى التحتية إلى بعض مناطق الأطراف بتكاليف معقولة ومن دون أن يتجاوز العجز المالي نقاطاً مئوية قليلة من الناتج. لم تكن الإنجازات التنموية هذه بقدر طموح ما خططت له بعثة إيرفد، وخصوصاً في مجال تقليص الفوارق الطبقية، لكنها حققت من الأهداف المرسومة أكثر بكثير مما حققته برامج إعادة إعمار ما هدمته الحرب الأهلية. في تجربة الستينيات، كانت الإدارة العامة فعالة في تنفيذ برامج سلطة سياسية قادرة نسبياً. لكنها ظهرت في التسعينيات عديمة الحيلة في سعيها الى تحقيق أهداف سلطة بدت بدورها عاجزة عن اتخاذ القرار.
ومع ذلك، كان الفساد في المرحلة الواقعة ما بين الاستقلال والحرب الأهلية ملموساً ويعبر عن حاجات النظام السياسي الثلاث: الحفاظ على الطابع المركزي للسلطة، تلبية متطلبات طبقة تجارية ــ مالية احتكرت جزءاً كبيراً من الاقتصاد المحلي وتسهيل التدخلات الخارجية.
في الجمهورية الأولى، احتفظ الرجال المتحلِّقون حول رأس الدولة بنفوذ واسع وكبير في إدارة الموارد العامة. وفي كثير من الأحيان، كان هذا النفوذ مندمجاً بالآليات النظامية للإدارة، مثل التأثير على التعيينات الإدارية في المواقع الوظيفية الحساسة أو الاستحواذ على المشاريع والمرافق الكبرى، لكن في أحيان أخرى كان استعمال أساليب الفساد المباشر والتقليدي ضرورياً لتحقيق مصالح كبار المحظيين، وضمان حصولهم على المناقصات الدسمة بطرق ملتوية. تعطينا أرقام الهدر الهائلة في بعض المشاريع فكرة عن حجم فساد ذلك الزمن، ومن النماذج الصارخة مثلاً، كلفة إنشاء مطار بيروت في خمسينيات القرن الماضي التي بلغت، باعتراف معنيين، ما يقارب ضعفي الكلفة المفترضة. حجم الفساد كان كبيراً بقياس العدد المحدود للمستفيدين في الدائرة المحيطة بالنواة الصلبة للسلطة، لكنه صغير نسبياً بقياس حجم الاقتصاد العام.
قدّرت كارولين غايتس عدد العائلات المكونة لما يعرف بكتلة السلطة Power-bloc بحوالى 100 عائلة ضمّت في ذلك الوقت نخباً سياسية ــ مالية وبيروقراطية مدينية وشبه إقطاعية، وقد امتلكت بالشراكة مع الرأسمال الأجنبي امتيازات حيوية، ولدى بعضها حتى الآن وكالات حصرية يحميها القانون. كانت المصالح التجارية لتلك العائلات النافذة والمقربة من دوائر القرار سبباً رئيسياً في إحباط تطور الصناعة، من خلال تفكيك نظم الحماية وإقرار تشريعات أغرقت الأسواق المحلية بالسلع المستوردة. تعززت قوة هذه العائلات من خلال الترابط القوي بين الطبقتين السياسية والاقتصادية، فالسياسيون من ناحيتهم يقدمون الحماية والدعم لمجتمع التجار والمقاولين والمضاربين الماليين، وهؤلاء يعيدون إنتاج الطبقة السياسية ويجددون شبابها، فهم ممولو اللوائح الانتخابية، وكثير من الفائزين يملكون حصصاً راجحة في شركات البلاد الكبرى.

توسيع نطاق التمثيل يعدّ
مدخلاً لإعادة النظر بطرق إدارة السلطة وتقاسم الثروة

لم يكن الفساد في حينه اقتصادياً ومالياً فقط، بل أدى مهمات سياسية، مثل تمويل ما سماه مايكل جونسون حزب السلطة أو حزب الزبائنية. هذا "الحزب" الذي يتمتع ببنية خاصة غير معلنه، يتربع رئيس الجمهورية فيه على قمة الهرم، فارضاً نفوذه على بقية الزعماء، فيما يبسط هؤلاء نفوذهم على حلفائهم البرلمانيين ومفاتيحهم الأساسيين، الذين يتولون بدورهم ضبط أتباعهم المحليين المعددوين بالآلاف. وكما يقول جونسون، بنى أولئك الزعماء مواقفهم وآراءهم بالدرجة الأولى على قاعدة الأرباح والخسائر، لا على مبدأ المصلحة العامة. وحتى عندما اعترض بعضهم على الصلات التي نسجها آخرون مع الحركة الصهيونية، فقد برروا رفضهم لها بآثارها السلبية على الاقتصاد والتجارة.
لم تكتسب هذه الكتلة نفوذها من حضورها القوي داخل مراكز النفوذ في الدولة فحسب، بل من اندماجها التام بمصالح الدول الأجنبية، وهذا هو الوجه الثالث للفساد والذي أُريد منه جعل لبنان جزءاً من الأحلاف الغربية في المنطقة أو على الأقل قريباً منها. أدت السفارة الأميركية في بيروت في النصف الثاني من القرن العشرين، دوراً كبيراً في صناعة القرار الداخلي والتحكم بمجريات الأمور، ولم تتورع، كما بات معروفاً، عن استعمال نفوذها ونقودها في تقرير نتائج الانتخابات النيابية، أو تفضيل سياسة اقتصادية على أخرى، بما في ذلك منع قيام قطاعات إنتاجية كفوءة.
في حقبة ما بعد الحرب الأهلية، حصل تغير محدود في منظومة الفساد. كانت إحدى وظائف الفساد المتجدد رعاية مصالح شبكة النفوذ والسيطرة التي توسع حجمها وزاد عدد المنتمين إليها. وتقدم الحقائق التي ترافقت مع عمليات إعادة الإعمار براهين واضحة على حجم الفساد المرتبط بحاجات هذه الكتلة، التي جرى إرضاؤها بطرق شتى مشروعة وغير مشروعة. تكفي الإشارة في هذا الصدد الى القيم المضاعفة للمشاريع الإعمارية والهدر الكبير في نفقاتها (أُعيد مثلاً بناء بعض الجسور المدمرة في عدوان تموز 2006 تحت إشراف المانحين بكلفة لا تزيد على 20 بالمئة من كلفة إنشائها في التسعينيات)، وإلى المعدلات الخيالية وغير الواقعية لأسعار الفائدة والاقتراض الزائد المسؤولة عن نصف الدين العام تقريباً، هذا الى جانب علاوات الاحتكار ولا سيما في استيراد السلع الاستهلاكية، وكبح كتلة الأجور التي نمت بنسب تقل عن نمو إنتاجية العمل المتدنية أصلاً.
الوظيفة الخارجية للفساد استمرت فاعلة ومتنامية. تبدلت الأسماء، لكن المرجعيات والخلفيات بقيت على حالها، وبقي معها الهدف المحوري المتمثل في ربط لبنان بمدار السياسات الإقليمية المحافظة والموالية للغرب. كانت الوظيفة الخارجية للفساد مكبوحة أثناء الوجود السوري ومتقيدة بالتفاهمات الضمنية التي قام عليها اتفاق الطائف، لكنها بعد صدور القرار 1559 أفصحت عن نفسها بقوة وعلانية غير مسبوقتين. والمثالان البارزان على ذلك: موازنة الخمسمئة مليون دولار التي اعترفت الإدارة الأميركية بإنفاقها لتشويه صورة المقاومة بعد حرب تموز، والرشى الانتخابية الفاضحة في انتخابات 2009، ليكون الفساد ظاهرة معممة لا تقتصر على الإدارة العامة، بل تتعداها إلى المجتمعين المدني والأهلي.
الوظيفة البنيوية للفساد هي التي تغيرت. في السابق، كان الهدف منها تكريس الطابع المركزي للسلطة وضمان الحد الأدنى من رضى الجماعات والطوائف. أما بعد الحرب الأهلية، فصارت الوظيفة تمكين النظام التوافقي القائم على إدارة سياسية لامركزية من العمل بالقدر الممكن من الفعالية. لم تكن التوافقية في أعقاب الحرب ناضجة على نحو يضمن الحد الأدنى من الانتظام والاستقرار، ولم تصبح كذلك بعد سنوات من تطبيقها، وهذا ما أثّر سلباً على عمل السلطات وألحق ضرراً فادحاً بالسلطات والمؤسسات. كان الفساد البنيوي الذي تعبر عنه المحاصّة الموسعة وتبادل المنافع والضخ المتواصل للمال العام، هو الطريقة الوحيدة لاستعادة التوازن المفقود داخل نظام غير متوازن بطبيعته، وللتعامل مع مخاوف الطوائف وضمان أحادية السلطة داخلها، وصيانة التعددية القائمة في ما بينها، وكذلك من أجل تهدئة الغالبية المتضررة من مشروع اقتصادي مجحف صُمّم على قياس أقلية نافذة.
لم تعد منظومة الفساد صالحة لتأدية الوظائف الثلاث المشار إليها أعلاه، وهي تواجه اليوم متغيرات داخلية ستؤدي في نهاية المطاف إلى إطاحتها، بإرادة ذاتية أو تحت وطأة الأحداث، متغيرات من قبيل فشل مشاريع الاستتباع الخارجي بالقوة الناعمة (وغير الناعمة)، والتغير الملموس في موازين القوى الاجتماعية، ونضوب المال العام الذي كان إلى وقت قريب الإطفائي والوسيلة الفضلى لاستمرارية النظام دون الاضطرار إلى إصلاحه. وبما أنّ الفساد ظاهرة سياسية وبنيوية بامتياز، فلا يمكن مواجهته فقط بإجراءات موضعية وتقنية، بل بسياسات بنيوية، تستأصل الأجزاء التي يتغذى منها في صلب النظام، وتعيد النظر بطرق إدارة السلطة وتقاسم الثروة، وتوسع نطاق التمثيل السياسي والانتخابي الذي يعدّ مدخلنا إلى الإصلاح... والبدايات الجديدة.