عندما تكدّست النفايات في شوارع بيروت وضواحيها، قبل نحو عامين، كان «صاحبنا» في ذروة غضبه. صاحبنا هذا شرطي أو، بمعنى أوسع، رجل أمن. كان لديه صفحة على «الفيسبوك». لم تكن باسمه. كان يأخذ راحته في شتم «الدولة». تفاقمت الأزمة، فنزل الشبّان إلى ساحات الاحتجاج، وانطلق التشويق منقولاً على الهواء مباشرة. مُسلسل مِن المواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن.
كانت خدمة صاحبنا في منطقة الاحتجاجات تماماً. هذه صدفة سيّئة له. هو ليس متزوّجاً. لا يُريد أن يفعل قبل أن يتملّك منزلاً. تحدّث كثيراً عن خوفه مِن التورّط بقرض سكني. هو مُعيل لعائلته. جاءت النفايات وجعلت غضبه يَنفجر. راح يشتم الدولة أكثر مِن أيّ وقت مضى. يَفعل ذلك وهو «ابن دولة». يقف مع زملائه العسكر في الساحة، يحمل هراوته، مسّدسه على خصره، إلا أنّه نجح في «التملّص» مِن ضرب أيّ متظاهر. مجازفة فيها طيرانه مِن وظيفته. المُهم نجح.
بعد أيّام، والاحتجاجات مستمرّة، أخبرنا عن رغبته في البكاء عندما تعرّض له أحد المتظاهرين بالشتم، وقد أصيب ببعض المقذوفات البلاستيكيّة، إذ ودّ أن يقول للشبّان: «سامحكم الله، أنا مثلكم موجوع، وربّما أكثركم وجعاً».

لا يُمكن أحداً أن يعوّل على جعل ضميرهم يؤنّبهم
عاش انفصاماً. في الصباح يلعب دور «رجل الدولة»، وفي المساء، عندما تهدأ الساحة، يُصبح مغرّداً في شتم كلّ ما يمتّ إلى الدولة بِصلة. هل كان زملاؤه مثله؟ كلّا. كان غريباً بينهم أيضاً. حالة خاصّة. بعضهم يسخرون مِنه. رجل أمن بهذه الطيبة والبساطة! هذا يحصل، ولو نادراً، وبالتالي حالة صاحبنا لا تنفع للتعميم. مشكلته كانت أنّه يقرأ كثيراً. هذا ما كان يقوله. ففضلاً عن حساسيّته العاطفيّة، وهذه لها علاقة بتكوينه النفسي، كان يقرأ كتباً فلسفيّة وفكريّة وروايات أدبيّة عالميّة وما شاكل. كلّ هذا بجهده الشخصي. ليس لمؤسسته أيّ دور هنا. ينفر ويشمئز مِن جهل أقرانه وسطحيتهم وغباوتهم. لم يكن يلومهم وهو يعلم أنّ هذا ما يجب أن يكونوا عليه. نسمع عن رجل أمن عدّاء. بطل في السباق الفلاني. بطل في ألعاب القوى. نسمع عن نادٍ رياضي باسم الشرطة أو الجيش. هذا في كلّ العالم تقريباً. لِمَ لم نسمع مرّة عن رجل أمن فيلسوف؟ لِمَ لا يشتهرون بقضايا ثقافيّة فكريّة إلخ؟ إنّهم كتلة عضلات. لا تريد مؤسساتهم الأمنيّة مِنهم إلا العضلات. على العكس، مشكلة أن «يُفكّر» هؤلاء كثيراً، وإلا فلن يستقيم هذا مع «نفِّذ». الطاعة ثمّ الطاعة ثمّ الطاعة. السُّلطة لا تُحبّ لرجالها أن يفكّروا أكثر مما ينبغي. الصورة النمطيّة لرجل الأمن، في العالم، تجدها غالباً محلّ شبهة أخلاقيّة. هذه لم تأتِ مِن فراغ. المطلوب مِنهم أن يقبضوا على اللصوص مِن بين المواطنين العاديين. فقط مِن بين هؤلاء. الحكومة تكره مَن يُنافسها في عملها. في نهاية الأمر، الشرطي أو رجل الأمن، أو العسكري عموماً، هو «مُنتَج». مِن البلاهة التصويب عليه كأنّه حالة قائمة بذاتها. لا يوجد شيء اسمه جيش، هكذا مُعلّقاً في الهواء، بعيداً عن السلطة السياسيّة. يكون كذلك فقط في حالة الانقلاب العسكري. لا يوجد كيان (له ذات واعية) اسمه رجال الأمن حتّى يتوجّه إليه البعض بالنصائح والوطنيّات والمواعظ. لن تجدهم على الموجة. لا يُمكن أحداً أن يعوّل على جعل ضميرهم يؤنّبهم. إنّهم يقومون بعملهم. بالنسبة إليهم أنت مَن يجب أن يؤنّبك ضميرك. هذا هو عملهم الذي لا يعرفون سواه.
إنّهم آلات قتل. لا سلبيّة في هذا التعبير. ما الذي يتدرّبون عليه في الدورات العسكريّة؟ أليس استخدام العنف... وصولاً إلى القتل؟ إنّهم أدوات خطرة. لا يُحبّون المُزاح في هذه المساحة. يبدون في غاية اللطف عندما يكتفون بالصفع والركل. إنّهم مُعَدّون لما هو أبعد مِن ذلك. إنّهم مجرّد حرس. لو تمكّنت مِن ضرب سياسي فاسد حاكم، أو حتّى أخذته رهينة، أو رميته في مستوعب نفايات، فهنا في مكانها. كم يبدو هذا نافعاً لو جرى تصويره ونشره! على الأقل خطوة جديدة تكسر الرتابة. التظاهر والاعتصام والهتاف لا ينفع عندنا. هذه ليست ثقافة في بلادنا.
رجال الأمن، والآن أصبح هنالك نساء أمن، أو الشرطة كما أطلقت عليهم العرب قديماً، جاء ابن خلدون على ذكرهم: «واعلم أنّ السُّلطان لا بدّ له مِن اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والمُلك الذي هو بسبيله مِن الجندي والشرطي... وهي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة». الإمبراطوريّة العثمانيّة، في بلادنا، كانت تجمع جندها وشرطتها (الإنكشاريّة وسواهم) مِن بين رجال العصابات. كان هؤلاء يخونون الطبقة التي أتوا مِنها ويمعنون في التعذيب. نقرأ عن «العسس» كثيراً في تراث العرب. هؤلاء يساوون اليوم أولئك الذي ينزلون إلى الساحات بثياب مدنيّة، فيما هم شرطة. كانوا مكروهين غالباً. ابن سيرين، صاحب تفسير الأحلام الكبير، يُفسّر رؤيا الشرطي في المنام بأنّه «ملك الموت، وقيل هول وهمّ، وإذا جاء الشرطي مع أعوانه فإنّه فزع وحزن وعذاب وخطر وذو سلطان شرّير». هذا همّ في لاوعينا الجمعي منذ القِدَم.
صاحبنا الطيّب، رجل الأمن، كان في الأيّام الأخيرة مِن الاحتجاجات حاضراً لإطلاق النار على المتظاهرين. لم يفعل. أصبح يشتمهم... مع الدولة. حجزته مؤسسته في العمل ولم يعد يذهب إلى المنزل. تورّمت قدماه مِن الوقوف. كان على حافة انهيار عصبي. فقد الأمل مِن الجميع. الآن هو يشتم الجميع.