يدور الآن سجال حاد حول إقرار موازنة الدولة. وقد زاد من حدة هذا السجال إقرار مجلس النواب سلسلة الرتب والرواتب، وهي تمثل نفقة عامة، في مقابل فرض ضرائب جديدة أو زيادة ضرائب قائمة لتغطية هذه النفقة، إذ رأى البعض ضرورة إيجاد موارد تمويل لتغطية أي نفقة جديدة أو زيادة في نفقة قائمة، بينما رأى البعض الآخر أن لا ضرورة لفرض ضرائب جديدة.
لكن بمعزل عن النقاش المتصل بالسياسة الضريبية ووظائفها وبمعزل عن السلسلة وتمويلها، يظهر في الواقع اللبناني أن هناك ضرورة لترشيد الإنفاق الحكومي ومكافحة الفساد ولجم هدر المال العام، انطلاقاً من مفاهيم المالية العامة المقبولة قبولاً عاماً، والتي تدعمها مجموعة من الحقائق الرقمية التي تظهرها دراسة متأنية لمشروع موازنة عام 2017.
تخضع النفقات العامة لقواعد عدة، أهمها:
- قاعدة المنفعة، وهي التي تتطلب أن يحقق الإنفاق الحكومي أقصى منفعة عامة ممكنة.
- قاعدة الاقتصاد، وهي التي تتطلب أن يقتصد في الإنفاق الحكومي بشكل يمنع تبذير الأموال العامة.
- قاعدة الترخيص، وهي التي تتطلب حصول الحكومة على إذن من السلطة التشريعية على غايات صرف النفقات العامة وتحديد مقاديرها.
في المقابل، تحتاج الدولة إلى موارد مالية لتغطية النفقات العامة وتوفير الخدمات العامة لأفراد المجتمع، وتحصل الدولة على هذه الموارد عادة من الضرائب (الأسر والقطاع الخاص)، أي من طريق إعادة تخصيص للموارد الاقتصادية من القطاع الخاص إلى القطاع العام، ويترتب عن إعادة التخصيص نتائج بالغة الأهمية على كل من التوازن السياسي بين فئات المجتمع، والكفاءة الاقتصادية في استغلال الموارد الاقتصادية، وعلى العدالة التوزيعية للدخل القومي، وعموماً تتعدد مصادر الإيرادات العامة للدولة كالضرائب على الدخل والإنفاق والرسوم الإدارية وحاصلات الدولة من أملاكها والهبات والقروض والوسائل النقدية.
ووفقاً لقواعد المالية العامة، فإن واردات الدولة تخضع لمبدأ «الشيوع» أو مبدأ «عدم تخصيص الواردات»، ويعني هذا المبدأ أنه لا يجوز تخصيص مورد معين لتغطية نفقة معينة، بل إن مجموع الواردات يجب أن يغطي مجموع النفقات وعلى وجه الشيوع، بمعنى آخر أن يحصل الإنفاق مهما كانت وجهته من الواردات مهما كان مصدرها.
ويتفق أصحاب الرأي على أن الضريبة تفرض وفقاً لمقدرة المكلف (صاحب النشاط الاقتصادي سواء كان تجارياً أو صناعياً أو مهنياً...) على الدفع، وأن لا يقتصر دورها على التمويل، بل يتعين أن تخضع لأهداف المجتمع، وأن تسخّر لخدمته. وبالتالي، يتعين أن تحدد السلطات المختصة النسبة المثلى للاقتطاع الضريبي من الدخل الوطني، في ضوء حجم الإنفاق الحكومي والوجهة التي تنفق فيها واردات الضرائب، وأن تراعى العدالة في توزيع العبء الضريبي على أفراد المجتمع.
وبالعودة إلى أزمة المالية العامة في لبنان، التي تتمثل بحجم الدين العام وعبء خدمته الكبير جداً، وبعجز الموازنة العامة، وعدم إقرار الموازنات العامة منذ عام 2006 حتى تاريخه، وعدم إنجاز حسابات الدولة بصورة صحيحة وصادقة منذ عام 1990 لغاية تاريخه. وبقصور الواردات العامة عن تغطية النفقات العامة، والانفلاش والتضخم في الإنفاق الحكومي بصورة غير مسبوقة. والسبب الرئيسي لهذه الأزمة هو في عدم احترام قواعد المالية العامة المنوه عنها أعلاه.
إن دراسة متأنية وواقعية لمشاريع موازنات الدولة في ما يزيد على عقدين من الزمن تظهر الحقائق الموجعة الآتية:
أولاً: المساهمة في تمويل نفقات 87 صندوقاً ومؤسسة وهيئة وبرنامجاً ومشروعاً داخل القطاع العام خاضعة لسلطة وصاية أو رقابة عامة من طريق التحويل من موازنات الإدارات العامة ذات الصلة إلى موازنات هذه المؤسسات تحت اسم «المساهمات داخل القطاع العام»، وقد بلغت قيمة هذه المساهمات 4900 مليار ل.ل. من ضمنها التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان لشراء الوقود ودعم التعرفات، وتشكل هذه المساهمات 20.7% من إجمالي الموازنة العامة و18.52% من موازنة الدولة (الموازنة العامة والموازنات الملحقة).
والسؤال المشروع: ما هي جدوى هذا الإنفاق، ومن يراقبه، ومن يصدّق عليه، ومن المسؤول عن حساباته، وإلى من تقدم هذه المؤسسات حساباتها ومن يبتّها؟ وهل الدولة بحاجة إلى كلّ هذه المؤسسات؟ وهل تخضع إدارتها لمبادئ الجدارة والاختصاص والمساءلة والمحاسبة؟
هل تخضع كلّ هذه المؤسسات لقواعد إدارة المال العام، ولا سيما قواعد عقد النفقة وتصفيتها وصرفها ودفعها... وفق ما نصّ عليه النظام المالي للدولة (قانون المحاسبة العمومية)؟ وهل يستطيع أحد أن يدّعي نجاح هذه المؤسسات؟
ثانياً: المساهمة في تمويل 74 هيئة لا تتوخى الربح تحت اسم «مساهمات لغير القطاع العام» من طريق التحويل من موازنات الإدارات العامة ذات الصلة إلى موازنات هذه الهيئات، وقد بلغت قيمة هذه المساهمات 336 مليار ل.ل. وتشكل 1.41% من الموازنة العامة و1.27% من موازنة الدولة، علماً بأن بعض هذه الهيئات غير مسماة للتعمية عليها.
إن الهيئات المذكورة هي للقطاع الأهلي والخاص، والمشكلة تكمن في من يدير معظم هذه الهيئات أو يؤثر في نشاطها والغاية منها وذلك لاستجلاب المنافع والفوائد. ومن المنطق العقلي والإنساني، أن الدولة ودافعي الضرائب ليس من واجبهما تمويل هذا الإنفاق غير العام.
ثالثاً: العطاءات إلى جهات خاصة تحت اسم «مساهمات لغير القطاع العام». وقد بلغ عدد هذه الجهات 58 هيئة، علماً بأن بعضها غير مسماة أيضاً، يجري التمويل من طريق التحويل من موازنة الإدارات العامة ذات الصلة إلى هذه الهيئات، وقد بلغت قيمة هذه المساهمات 54 مليار ل.ل. وتشكل 0.23% من الموازنة العامة و0.2% من موازنة الدولة.
إن ما ينطبق على المساهمات إلى هيئات لا تتوخى الربح ينطبق أيضاً على العطاءات إلى جهات خاصة.
مئتان وعشرون نفقة لمؤسسات عامة وهيئات لا تتوخى الربح وجهات خاصة تبلغ قيمتها الإجمالية نحو 5290 مليار ليرة، وتشكل نسبة 22.34% من إجمالي الموازنة العامة و20.00% من موازنة الدولة، تمثل ثقوباً في خزان المال العام يقتضي على الجميع الإسراع لرتقها... علّ ذلك يلطف بالمواطن من ظلم الضرائب غير المبررة إن لم نقل من ظلم فارضيها.
* مدير المؤسسة اللبنانية للخدمة الضريبية