«عهودهم بعيدة كل البعد عن الديمقراطية والعدالة»مواطن مصري

مما لا شك فيه أن أكثر فئة اجتماعية في المنطقة العربية شاركت في انتفاضات 2011 كانت فئة الشباب. في نفس الوقت كان هؤلاء الشباب أكثر فئة اجتماعية خاب أملها من التطورات السياسية والاقتصادية في السنوات التالية، التي أتت لتخلق نوعاً من الردة أو «الثرمودرية» والتي أجهضت، ربما لفترة طويلة، إمكانية تحقيق مستقبل جديد للشعوب وللمجتمعات العربية.

بالتأكيد إن أكثر ما كان يتوقع من الثورات هو خلق تنمية اقتصادية جديدة تنقل المنطقة من حالة الركود والجمود إلى مرحلة جديدة تؤدي إلى حريات سياسية ونمو اقتصادي وتنمية حقيقية واقتصادات منتجة ديناميكية تحقق العدالة الاجتماعية. لكن هذا لم يحدث، بل بالعكس ساءت الأوضاع. هنا سأقدم 12 أطروحة حول العلاقة بين التنمية الاقتصادية ومستقبل الشباب الذين كانوا طليعة الانتفاضات العربية:
1- إن العالم العربي يعاني من حالة فشل في التنمية الاقتصادية. فقد فشل كلّ من نموذج «الاشتراكية العربية»، الذي ساد في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كما «النموذج النيوليبرالي»، الذي ساد بأشكال مختلفة من السبعينيات وحتى الآن، في تحقيق التنمية الاقتصادية. فإذا أخذنا الكثير من المؤشرات مثل مستوى الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد؛ تراكم رأس المال في القطاعات الصناعية؛ التطور التكنولوجي ومستوى إنتاجية العمال، فإن المنطقة العربية، بالمقارنة مع المناطق الأخرى ما عدا أفريقيا ما تحت الصحراء، هي منطقة متخلفة زمنياً باللحاق بالتنمية نسبة إلى العالم (laggard).
2- إن إمكانية التغيير من خلال الربيع العربي تعثرت. فخلال الموجة الثورية رفع شعار «الخبز والحرية والعدالة». فهل حصل ذلك؟ أمران حصلا. الأول، اندلاع الحروب الأهلية في عدد من البلدان مثل سوريا واليمن وليبيا حيث الشباب يشكلون الوقود الأساسي لهذه الحروب الطائفية والقبلية والإقليمية، التي لا يقدم فيها أيّ طرف من أطراف النزاع برامج سياسية واقتصادية نحو التقدم. الأمر الثاني، في بلدان مثل مصر وتونس، لم تستمر السياسات الاجتماعية والاقتصادية القديمة فحسب، بل حصل أسوأ من ذلك، إذ خضعت أيضاً لبرامج صندوق النقد الدولي التي تشمل التقشّف وزيادة الضرائب الاستهلاكية والسياسات المعادية للعمل والعمال. ومن المفارقات الكبرى أن هذه الدول التي اندلعت فيها انتفاضات مدفوعة بغياب العدالة الاجتماعية هي من القلائل في العالم التي لا تزال تخضع الآن لهذه السياسات البائدة. هناك أحد عليه أن يقول للحكومات العربية «إن توافق واشنطن انتهى»!
3- بطالة الشباب لن تختفي بنفسها (أو النمو ليس حلّاً سحريّاً). إذ إن البلدان العربية تعاني من أعلى معدلات البطالة وبطالة الشباب في العالم وذلك حسب تقارير منظمة العمل الدولية وغيرها. ونتج ذلك من كون عدد الوظائف الجدیدة في الاقتصادات العربية تتخلّف سنويّاً بشكل كبير عن نمو القوى العاملة. هناك من يعتقد أن النمو الاقتصادي بحدّ ذاته سيحلّ هذه المعضلة ولكن ذلك غير صحيح إطلاقاً. فقد شهدنا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نموّاً مرتفعاً حتى خلال الأزمة الرأسمالية في 2008 - 2009 أي قبيل الانتفاضات. ولكن هذا النمو، ولو رافقه تحسّن أيضاً في مؤشرات التنمية التي أطلق عليها تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي «عجيبة شمال أفريقيا» في 2010 (الذي أصبح هو نفسه «عجيبة» من عجائب الاقتصاد بعد 2011!)، تمتّع بضعف مرونة نمو العمالة نسبة للنمو الاقتصادي أو كان نمواً غير خالق للوظائف مما يعني أن النمو لن يقضي لوحده على بطالة الشباب.
4- إن ما يُظّهر حول معضلة «عدم تطابق المهارات» ليست ما هي فعلاً عليه. ففي الحكمة التقليدية، أو ما يشيعه معظم الاقتصاديين والمؤسسات الدولية، تُعتبر مشكلة عدم تطابق المهارات في سوق العمل هي مشكلة جانب العرض أي إن ما يعرضه العمال في المنطقة العربية لا يتطابق مع ما تطلبه المؤسسات الرأسمالية. وهذه الأسطورة التي تضع اللوم على قلّة مهارة العمالة العربية مستقاة بأكثرها من ما يُصرح به أرباب العمل في الدراسات الاستقصائية التي يقوم بها البنك الدولي أو غيره. ولكن الحقيقة أن مشكلة عدم التطابق هذه مردّها إلى حدّ كبير إلى جانب الطلب، أي إن مؤسسات الأعمال لا تطلب العمالة الماهرة. ويحدث هذا التفاوت عندما يتخلّف خلق الوظائف عن التحصيل العلمي في البلدان النامية، وبالتالي لا تولد القطاعات، ذات الإنتاجية المتدنية المهيمنة على الاقتصاد، فرص عمل كافية وخاصة للعمال ذوي المهارات العالية. وفي أبحاثنا ضمن مشروع SAHWA www.sahwa.eu ذات الصلة حول قابلية التوظيف في لبنان، وجدنا أن الشباب من ذوي التعليم العالي يعتبرون مشكلة عدم تطابق المهارات أساسية في إعاقتهم عن إيجاد وظائف.

التنمية العربية يجب أن تخضع لـ «دفعة كبيرة» عبر مشروعي «التصنيع» و«إعادة التوزيع»


5- العمالة غير النظامية هي مشكلة وليست حلّاً. فالعامل غير النظامي ليس «البطل الوحيد» للرأسمالية الريادية، كما هو في بعض النظريات اليمينية المتطرفة كنظريات هرناندو دى سوتو، بل بالعكس، فإن الكثير من هذا النوع من الريادة هو «غير منتج» أو «مدمّر». كما أنها تؤدي إلى مصائد متدنية الأجور وعائدات منخفضة للتعليم. فالمتعلمون الذين ينتهون كأعضاء في هذا الجيش من العمال غير النظاميين يهدرون طاقاتهم العلمية في بطالة مقنّعة. وتسيطر هذه اللانظامية على أسواق العمل في الكثير من البلدان العربية، إذ تصل معدلاتها في بعض الدول إلى أكثر من 50%.
6- إن سيطرة «الأسواق» على مفهوم وتطبيق التنمية هو ضار. إذ إن اتباع برامج «سوقية» من قبل حكومات ما بعد الربيع والتدابير التقشفية المصاحبة لهذه الأجندة تضرّ بالاقتصادات العربية. فهي تفاقم عدم المساواة كما أنها تدمّر «العقد الاجتماعي القديم» وفي نفس الوقت لا تطرح خطة جديدة واضحة للتنمية. وهذه الأساليب تعتمد كثيراً، كما قال بريوبراجنسكي، على أسطورة «طريقة حرب العصابات الرأسمالية، والمبادرة الخاصة، والمنافسة» التي من شأنها أن تعيد إنتاج الهياكل الاقتصادية القائمة بدلاً من استبدالها. وهذا من شأنه الإبقاء على القديم أو حتى جعله أسوأ وهو القديم الذي رفضته الشعوب العربية. سأعطي مثلين عن هذه الهياكل القديمة. أولاً، إن معدلات مشاركة الإناث في العمل في العالم العربي هي الأدنى في العالم حيث يبلغ متوسطها حوالى 25٪. إن هذه «الفجوة بين الجنسين» تتسبّب في إضاعة موارد كبيرة وخسارة إجمالية للدخل بنسبة 27٪ في المنطقة. ثانياً، إن معدلات الاستثمار التي يقودها في مجملها القطاع الخاص في المنطقة لديها بالفعل معدلات سلبية للاستثمار الحقيقي (-7.09٪) وذلك بعد حساب نضوب الموارد الطبيعية أو النفط والغاز. وهذا يؤدي أيضاً إلى كون معدل نمو نصيب الفرد من الثروة الحقيقية هو الأدنى في العالم (باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء) البالغ 0.74٪ سنوياً.
7- إن الحلول الجزئية أو إجراءات ال «مايكرو» التي تُردد بشكل مستمر لن تحل شيئاً. فالإجراءات، التي تترافق عادة مع إصلاحات جانب العرض أو التكيف الهيكلي الخبيثة التي تفرض من قبل البنك وصندوق النقد الدوليين، لديها أيضاً بعض الأخوات الصغرى التي تبدو حميدة وأيضاً عادة ما تعرض على أنها جزء من حلٍّ سحريٍّ لتحقيق الرفاه الاقتصادي. ومن ضمن هذه الأشياء التي تردّد ببغائياً: مرونة سوق العمل وتشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتحسين بيئة العمل والحكم الجيد وحكم القانون إلخ... قد تكون بعض هذه الأمور بديهية ولكن مشكلتها أنها كذلك لا أكثر ولا أقل وتطبيقها بمعزل عن أمور أخرى لن ينفع أيضاً.
8- الأمل بأن يحصل انحدار للمنافع من الأعلى إلى الأسفل (trickle down) هو وهم. فدرجة عدم المساواة في العالم العربي من أعلى المعدلات في العالم، وتستحوذ القلة على جزء كبير من الناتج المحلي وجزء أكبر من الثروة. وكل الآمال التي يعقدها البعض على أن يتم تحويل الثروة بشكل أوتوماتيكي من الأغنى إلى الأفقر لن تتحقق إذ إن العكس يحصل إذ تزداد الثروة تركّزاً.
9- الآمال في «تحول تكتوني» في توزيع الثروة هو أيضاً وهم. إذ إن المنطقة العربية تعاني أيضاً من عدم المساواة في الدخل والثروة بين الدول، والاعتقاد بحصول انتقال كبير للثروة هو أيضاً غير واقعي على الرغم من بعض الانتقال الذي يحصل عبر هجرة العمالة. لكن أن يحصل تلاقٍ (convergence) هو مستحيل، والحروب التي تعصف بالدول الفقيرة مثل سوريا واليمن والصومال وحتى العراق تنذر بأسوأ العواقب اقتصادياً على الرغم من انتظار طوابير «طيور الموت» حصّتها من «إعادة الإعمار»!
10- الريعية لن تختفي بل هي تُعمم. إذ إن «الدولة الريعية» في الخليج ليست في طور الانحلال، حتى في خضم تهافت الخطط البعيدة الأمد التي تتهافت على تقديمها إلى دولها شركات الاستشارات العالمية حول التنويع الاقتصادي، والتي تكلّف مئات الملايين من الدولارات. بل إن هذه الخاصية الريعية للاقتصادات الخليجية وغيرها بدأت تعمم من خلال قنوات هجرة اليد العاملة والتحويلات المالية الناتجة عنها. وبذلك يهاجر الاقتصاد الريعي إلى الاقتصادات المصدّرة للعمالة مثل مصر والأردن ولبنان. كما أن إضفاء الطابع المالي على الاقتصادات العربية والتحويلات المالية الرسمية والخاصة العابرة للحدود التي تشتري الأصول وأدوات الدين، وتعميم الاعتماد على الموارد الطبيعية حتى سيكولوجيا (لبنان وهوسه وشعبه بالنفط والغاز) وتعميم ثقافة الاستهلاك والاستيراد على حساب الاستثمار والتصدير وعدم تحويل الثروة الطبيعية إلى رأس مال مادي بالشكل الكافي، كلها تؤدي إلى قيام الدولة «السوبر ريعية» بدلاً من دولة التنمية.
11- المزيد من التعليم لن يحلّ المعضلات أيضاً (أو زيادة الخير ليس خيراً). فالكثيرون يعتبرون أن الحل هو بإشاعة المزيد من التعليم في العالم العربي. لكن المشكلة الأساسية في هذا الحلّ في ظلّ الطبيعة المتخلّفة للاقتصاد أنه، من دون توليد الطلب على العمالة الماهرة، يؤدي إلى البطالة والعمالة الناقصة أو المقنعة ويتحول التعليم اقتصادياً إلى عمل غير منتج. كما أن مستويات التعليم في العالم العربي من أفضلها بين الدول النامية، إذ إنه بين عامي 1980 و2010، كانت ثمانية بلدان من بين أكثر 20 بلداً في العالم في الزيادات في التعليم هي بلدان عربية مما يضفي مزيداً من الشك في العلاقة المزعومة بين زيادة التعليم وتحسّن الأجور والعمالة والعوائد على ما يسمى الرأسمال البشري.
12- إن التنمية العربية يجب أن تخضع لـ»دفعة كبيرة» (Big Push) عبر مشروعي «التصنيع» و»إعادة التوزيع». إذ يحتاج العالم العربي إلى أجندة لـ «التنمية والمساواة» وليس لأجندة «الأسواق والنمو» الأحادية الجانب. وهذه الأجندة ترتكز إلى تحويل الثروة العربية إلى تراكم رأس المال وإلى التقدم التكنولوجي، وذلك عبر برنامج استثماري ضخم يستخدم في بعض أجزائه صناديق الثروة السيادية للاستثمار في إنشاء شركات صناعية كبيرة والعمل كرافعة للتنمية الاقتصادية. فقد أثبتت تجارب الدول الرأسمالية المتقدمة أن هناك علاقة تكاملية بين الدولة وريادة الأعمال. فالأخيرة لا تعمل في فراغ الأسواق، وتعتمد الرأسمالية الآن على ريادة الأعمال الجماعية على أساس المساهمات المشتركة في البنية التحتية العلمية وعلى التعاون بين الشركات. كما يجب أن يكون التصنيع هائلاً من دون مراعاة لمعايير الربحية، وذلك من أجل توظيف كبير للعمالة الفائضة، وضمنها غير النظامية، حتى ولو وصلت أن تكون إنتاجيتهم الحدية أقل من أجرهم. وعبر هذا «الدفع الكبير» والنمو الاقتصادي القوي المرافق له يتم ضمور قوة الريعي في الاقتصاد، كما بيّن توماس بيكيتي أخيراً. ومن خلال هذه الأجندة المساواتية لا يتم فقط إعادة التوزيع من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ولكن أيضاً من أجل حلّ مشكلة تقنين الائتمان في الرأسمالية، وذلك عبر اقتراح الاقتصادي انتوني اتكينسون بإعطاء كلّ مواطن بالغ حدّاً أدنى من الرأسمال لكي يستثمره.
أخيراً، إن الجيل العربي الجديد عليه أن يطرح «رهان العصر» هذا عبر انخراطه السياسي كما يفعل اليوم «الالفيون» (millenials) في الولايات المتحدة. إذ إن التغيير الاقتصادي يعتمد في النهاية على التغيير السياسي. وكما ذكّرنا المؤرخ سيبوغ مونتيفيوري في مقالته في النيويورك تايمز في 26 مارس 2011، بأن المهم في العالم العربي آنذاك كان الإجابة على السؤال الذي طرحه لينين «من يحكم من؟» أو who whom? وبالطبع فإن الإجابة عنه تدفعنا إلى السؤال الأساسي الذي يتطلب بدوره إجابة نهائية: هل سيحدث هذا التطور ضمن متغيّرات الرأسمالية القائمة اليوم في المنطقة العربية؟

* أُلقيت في منتدى «الشباب المنسي بعد الربيع العربي»، الذي عُقد يوم 4 أكتوبر في جامعة العلوم السياسية، باريس.