في أيار 2017، أرسلت وزارة البيئة المهندس محمد سعيد للكشف على مكبّ النفايات في بلدة رأس بعلبك، في البقاع الشمالي، بعد كتاب رفعته «لجنة حماية نهر العاصي» إلى وزير البيئة طارق الخطيب، لفتت فيه إلى أن هذا المكب واحد من مصادر التلوّث الرئيسية لنهر العاصي.
بعد كشف ميداني، رفع سعيد تقريراً إلى الوزير أوصى فيه بضرورة الإسراع في إقفال المكبّ لوقوعه على مجرى السيل الذي يصبّ في النهر الأغزر في لبنان، ويؤدي إلى تلويثه ويقضي على التنوع الايكولوجي فيه، كما أوصى بضرورة مؤازرة بلديات المنطقة لإيجاد حلول بديلة وعاجلة. لكن، رغم «الإلحاح» في التوصيات، لم يُتّخذ أيّ إجراء للمعالجة ووقف رفد النهر بالسموم القاتلة.
اللجنة شُكّلت صيف 2016 بعد استفحال التلوث في النهر، حتى باتت الخشية جديّة من تحوّله إلى «ليطاني ــــ 2». ويقول نائب رئيس اتحاد بلديات الهرمل عباس الجوهري إن الفحوصات المخبرية التي أجرتها اللجنة لمياه النهر من المنبع الى المصبّ أظهرت أنها ملوّثة بأنواع عدة من البكتيريا وبنسبة من البراز البشري. وأوضح أن أبرز مصادر تلوث النهر هي مياه الصرف الصحي للمنشآت السياحية الواقعة على ضفتي النهر، واستعمال أحشاء الدجاج والمسالخ في إطعام السمك في بعض مزارع تربية أسماك «الترويت»، و«الأهم مكبّات النفايات العشوائية الواقعة على مجرى السيل الذي يصبّ في نهر العاصي، وأبرزها مكب رأس بعلبك». والأخير يبعد أقلّ من سبعة كيلومترات عن نبع العاصي، و«تم التأكد، عينياً، أنه سبب التلوث، إذ لا يوجد على طريق السيل سوى هذا المكب». ويلفت الجوهري إلى أن السيول التي تتعرض لها المنطقة في فصلي الربيع والخريف (آخرها الخريف الماضي) تجرف معها الى النهر نفايات صلبة من المكبّ الذي تُفرغ فيه أيضاً حمولات عشرات الصهاريج من المياه المبتذلة يومياً.

وزير البيئة: إقفال المكبين لا يحل المشكلة... أين ستذهب النفايات؟!


والمكبّ، في الواقع، عبارة عن مكبّين متجاورين على الحدود الفاصلة بين بلدتي رأس بعلبك والفاكهة. رئيس بلدية الرأس دريد رحال يؤكّد، من جهته، أن المكبّ الواقع في النطاق الجغرافي لبلديته «لا يشكل تهديداً للنهر، إذ إنه عبارة عن حفرة صخرية تمنع تسرّب عصارة النفايات إلى المياه الجوفية. كذلك، فإن السيل لا يحمل أيّ نفايات لأننا نطمرها»، مقرّاً بأن ذلك يحصل من دون فرز، ومشيراً إلى أن البدء بعملية الفرز «بات قريباً». يحمّل رحّال المسؤولية لمكبّ الفاكهة المجاور، إذ إنه «مكبّ مسطّح ترمى فيه عشوائياً نفايات بلدات العين والفاكهة والزيتون، وتفرغ فيه صهاريج مياه الصرف الصحي بكميات كبيرة يومياً بإذن من البلديات». ويلفت الى أن أضرار ذلك لا تقتصر على نهر العاصي، بل على المياه الجوفية لكل البلدات المجاورة، ومنها رأس بعلبك. وأوضح «أننا نسيّر دوريات ليلاً ونهاراً لحماية المكبّ من الصهاريج والشاحنات المتسللة، وخصوصاً في الليل، لتفريغ حمولاتها من النفايات والمياه المبتذلة في عقار رأس بعلبك، ونسطّر محاضر ضبط للسائقين المخالفين». في المقابل، تُوجّه الاتهامات الى رحال بالتذرع بالفوضى العارمة في بلدة الفاكهة بعد قرار مجلس الشورى بحلّ بلديتها، ليرمي بكل تبعات هذا الملف على الفاكهة.
الخبير البيئي ناجي قديح، الذي عاين المكب بطلب من لجنة حماية نهر العاصي، أكّد لـ«الأخبار» أن المكبّات الواقعة مباشرة في مجرى السيل تلوّث النهر. ورجّح أن تكون لمكبّ رأس بعلبك علاقة بتلويث العاصي «بنسبة كبيرة، كونه قريباً من النبع، ويقع على منحدر، ما يؤدي إلى تسرّب عصارة النفايات إلى الينابيع، حتى لو لم يأت السيل ويجرفها معه». لكنه شدّد على أن كل ذلك «يقع في خانة الاحتمالات، وإن صُنّفت بالاحتمالات القوية»، داعياً البلديات المعنية إلى إجراء دراسات جيولوجية وهيدرولوجية وبيئية لتحديد الأثر الفعلي للمكبّ.
وسط ذلك كله، تبدو وزارتا البيئة والطاقة، المعنيتان الأبرز بهذا الأمر، الغائب الأكبر. يلفت الجوهري الى «المماطلة في حل مشكلة بالغة الخطورة»، مشيراً الى أن «كل مراسلة مع وزارة البيئة تستغرق نحو شهرين قبل أن يأتينا الرد»، فيما أكّد وزير البيئة لـ«الأخبار» أن مكب رأس بعلبك «ليس السبب الوحيد في تلويث نهر العاصي»، لافتاً إلى أن إقفاله «لا يحل المشكلة... فأين ستذهب النفايات؟»! وعن إيجاد مواقع أخرى بديلة لحماية النهر، قال إن وزارته «ليس لديها الإمكانيات المادية لذلك... ومشكل سنوات لا يمكن معالجته دفعة واحدة». ولفت إلى أن حلولاً مبنية على دراسة قامت بها وزارة البيئة لمعالجة 941 مكباً عشوائياً على امتداد لبنان ستطرح اليوم في جلسة مجلس الوزراء.




الصخر يمتصّ العصارة

كلام رئيس بلدية رأس بعلبك دريد رحال عن أن كون أرضية المكبّ ذات طبيعة صخرية تمنع تسرّب عصارة النفايات تنفيه الحقائق العلمية. الخبير الهيدروجيولوجي الدكتور سمير زعاطيطي أكّد لـ«الأخبار» أن 75% من صخور لبنان هي صخور كربوناتية قاسية ومشققة وتذوب في المياه، وهي ذات نفاذية عالية وتستوعب 40 في المئة من مياه الأمطار والثلوج. وأوضح أن صخور منطقة رأس بعلبك تنتمي الى هذه الفئة من الصخور التي تعود إلى العصر الطبشوري.