التداعيات الاقتصادية للأزمة السورية على لبنان لم تكتمل فصولها، ومن الصعب في الوقت الحاضر وضع تصور للمدى الزمني الذي سوف تقف عنده، أو تعيين سقف لحركة النزوح السوري الوافد إلى لبنان. وهذا ما يؤثر بالطبع على عملية تقدير الحجم النهائي لتلك التداعيات.
بداية، يجب الاقرار، بالنسبة الى التراجع الحاصل في معدلات نمو الاقتصاد اللبناني بعد عام 2010، بوجود صعوبات منهجية لجهة القدرة على التمييز والفصل بين ما يعود من هذا التراجع الى انعكاسات الازمة السورية تحديداً، وما يعود منه الى العوامل اللبنانية «الصرف»، المرتبطة بواقع الانقسام السياسي الداخلي الحاد وتردي الاوضاع الامنية، والمرتبطة أيضاً باتجاه مفاعيل دورة النمو المرتفع للسنوات 2007 ــ 2010 نحو الاستنفاد. وتنطبق هذه الصعوبات كذلك على موضوع عدم توافر المعطيات الاقتصادية اللبنانية وسلاسلها الزمنية بصورة كافية، بحيث تتيح تعزيز وتطوير المصداقية العلمية لنموذج الاسقاط الاحصائي المعتمد.
كذلك، تتمثل المشكلة الابرز في حجم النزوح السوري المحقق حتى تاريخه، والذي بات يقترب بحسب تقديرات المنظمات الدولية المختلفة من عتبة المليون نازح، أي ما يمثّل نحو ربع اجمالي عدد المقيمين في لبنان راهناً. هذا مع العلم بأن مدى دقة الرقم المذكور يطرح العديد من الاسئلة المشروعة المرتبطة بعوامل عدّة، من بينها: مدى شموله أو عدم شموله للمخزون الوسطي للعمال السوريين (وأسرهم المقيمين) الذين درجوا على العمل في لبنان قبل تفجر الأزمة السورية، ومدى أخذه في الاعتبار الهجرات السورية المعاكسة من لبنان الى سوريا، ومدى انتشار ظاهرة تسجيل أفراد أسر النازحين «عن بعد»، إضافة الى مسألة هجرة اللبنانيين المعاكسة من سوريا الى لبنان، وغيرها من العوامل المتصلة بحركة النزوح السوري في لبنان.

«قنبلة موقوتة»

في جميع الأحوال، إن حجم هذا النزوح (كنسبة من إجمالي عدد السكان المقيمين) في فترة زمنية لا تزيد على سنتين هو من الضخامة الى درجة لم يسبق لبلد في العالم أن شهد مثلها. وتكاد تتزامن مع هذا النزوح زيادة مماثلة نسبياً في عدد عارضي العمل بين النازحين، بما يشكل نحو 25% الى 30% من إجمالي القوى العاملة المحلية، وذلك في بلد يعاني في الاصل من بطالة مرتفعة (11% عام 2010، أي عشية الازمة السورية)، ومن فجوة سنوية بين العرض والطلب على العمل تزيد على 50% على أقل تقدير. ويعبّر هذا الواقع عن «قنبلة موقوتة» مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر كلما طالت مدة الازمة السورية وتداعياتها المعقدة، وكلما ازداد الانقسام السياسي في لبنان وتواصل الشلل في مؤسسات الدولة المركزية (من حكومة ومجلس نيابي ولاحقاً رئاسة الجهورية).
إن المحصلة الاقتصادية العامة المتأتية من تداعيات الازمة السورية تنطوي على خسائر ضخمة مباشرة بالنسبة الى لبنان، كما أوضحت خلاصة تقرير البنك الدولي (25 ايلول 2013) المقدم من الجمعية العامة للامم المتحدة، وكذلك تقدير البرنامج الانمائي للامم المتحدة (تشرين الاول 2013). وبمعزل عن الملاحظات التقييمية والنقدية المفصلة التي يمكن تسجيلها على هذين التقريرين ــ وبخاصة على النموذج القياسي الاقتصادي المعتمد في تقرير البنك الدولي ــ فإن ثمة توافقاً كبيراً على مسألتين أساسيتين: الاولى، ضخامة حجم الاضرار التي طالت قطاعات ومجالات محددة، مثل حركة الاستثمارات الرأسمالية، بما فيها الاستثمار الاجنبي المباشر، والسياحة والمبادلات التجارية البرية، إضافة الى الضغوط المتزايدة على شبكات البنى التحتية (التي تعاني في الاصل من ضعف بنيوي) وعلى المالية العامة والبلديات وغير ذلك من القطاعات. والثانية، ان المشكلات الناتجة من الازمة السورية قد جاءت لتضاف الى مشكلات اقتصادية بنيوية كانت قائمة بل متفاقمة في لبنان قبل تلك الازمة (وهذا ما يطرح تساؤلات مشروعة حول مدى صوابية طرح موضوع «دعم المانحين» تحت شعار «التثبيت» Stabilization).

ملاحظات على الصندوق

إن تشكيل المانحين صندوقاً لدعم لبنان يعبر عن حاجة بالغة الإلحاح، بالنظر الى عدم جواز تحميل لبنان كل تبعات الازمة السورية منفرداً، وبالنظر أيضاً الى الوضع الاقتصادي والاجتماعي الدقيق الذي يواجهه هذا البلد في الاصل. وبإيجاز شديد، يستدعي تشكيل هذا الصندوق طرح عدد من الملاحظات والتوجهات، وأهمها:
ــ التشديد على أن يكون الصندوق فعلاً صندوق دعم وليس صندوق إقراض، خصوصاً إذا شاركت فيه جهات أو مؤسسات دولية متخصصة أكثر في الإقراض الميسر منها بالدعم (من دون مقابل).
ــ أن يستهدف الصندوق اللبنانيين والسوريين على حد سواء، وبخاصة الفئات الاكثر حاجة وتضرراً وانكشافاً منهم. وهذا يطرح بالتالي موضوع «معايير الاختيار» على مستوى المناطق والجزر المستفيدة، وكذلك على مستوى الاسر والافراد.
ــ أن يكون صندوق ــ قدر المستطاع ــ أقرب الى صندوق إنمائي منه الى صندوق هدفه فقط «التثبيت الاقتصادي»، ما يدعم فكرة دعم إنتاج الفئات الفقيرة والمتوسطة على حساب الدعم غير المستدام للاستهلاك المستهدف لهذه الفئات الاجتماعية.
ــ أن يخصص الجزء الاكبر من أموال الصندوق للاستثمار في مشاريع التنمية المحلية (بالاستفادة من امتلاك أكثر من 20 اتحاداً بلدياً لمخططات مبسطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية)، إضافة الى عدد من مشروعات البنية الاساسية ذات الملفات الجاهزة أو شبه الجاهزة، لجهة الدراسات الفنية وشروط التلزيم.
ــ أن تعطي الاولوية في المشروعات الاستثمارية ــ قدر الامكان ــ لتلك المشروعات المتميزة بكثافة استخدامها النسبي لليد العاملة البسيطة والمتوسطة التأهيل (مشاريع النقل والطرقات والكهرباء...)، التي يكثر وجودها وانتشارها ضمن الفئات المستهدفة بالصندوق.
ــ أن يتم الحرص على بناء علاقات ندية ومتكافئة بين الدول والمؤسسات المانحة من جهة والدولة اللبنانية ومؤسساتها المعنية من جهة ثانية. وهذا ما يطرح على الدولة اللبنانية بالذات مهمة الاستفادة من الدروس المستخلصة من تجاربها السابقة مع المانحين، وبخاصة مما اعترى تلك التجارب من نقاط ضعف لدى الطرف اللبناني.
ــ أن يتزامن استثمار أموال الصندوق مع انخراط الدولة اللبنانية بصورة جدية في عملية إعادة بلورة وتحديث وتنفيذ ما سبق أن أعدته من رؤى اقتصادية واستراتيجيات للتنمية الاجتماعية المتوسطة والبعيدة المدى، بحيث لا ينحصر جهدها الاستثماري فقط في الموارد المالية التي يتفرض أن يوفرها الصندوق.
ــ أن الحرص على حسن إدارة استخدام واستثمار أموال الصندوق يجب أن يراعي مسألتين أساسيتين مترابطتين: الاولى، تعطيل تفجر مشكلة الفقر والجوع والعوز في صفوف البيئة اللبنانية الحاضنة والنازحين السوريين الفقراء، والثانية استباق أزمة الاندماج الاجتماعي الداهمة والمرشحة للانفجار في كل لحظة بين هذين الطرفين، بحسب ما تشير اليه الوقائع الجارية في الحياة اليومية.
* المدير التنفيذي في مؤسسة البحوث والاستشارات




تقديرات البنك الدولي لأكلاف التثبيت

الاقتصاد

ــ تعطيل التجارة والتأثير على كل من ثقة المستهلكين ومؤسسات الأعمال يؤدي إلى انخفاض معدل نمو إجمالي الناتج المحلي للبنان بنسبة 2.9% سنوياً.
ــ الخسارة التراكمية في الإيرادات الحكومية خلال الفترة من 2012 إلى 2014 تقدّر بمليار ونصف المليار دولار، وذلك نتيجة تناقص النشاط الاقتصادي.
- الزيادة الكبيرة والمفاجئة في الطلب على الخدمات العامة تؤدي إلى زيادة النفقات العامة بنحو 1.1 مليار دولار.
- تدني الايرادات وزيادة النفقات يؤديان إلى زيادة العجز الكبير بالفعل في المالية العامة للبنان، الى 2.6 مليار دولار في الفترة من 2012 الى 2014.

الفقر

ــ يتوقع أن تصل أعداد النازحين إلى 1.6 مليون بحلول عام 2014، وتدير الحكومة جانباً من الطلب الناتج منهم من خلال تقليص سبل الحصول على الخدمات العامة وأيضاً تخفيض جودتها.
ــ يدفع تأثير الموجات الهائلة من اللاجئين على الخدمات الاجتماعية بنحو 170 ألف لبناني آخر إلى براثن الفقر بحلول عام 2014، مع سقوط المليون فقير الحاليين إلى مزيد من غياهب الفقر.
ــ تتطلب العودة بالخدمات الاجتماعية إلى المستوى الذي كانت عليه قبل الأزمة والحفاظ على جودتها وإتاحة الحصول عليها حتى نهاية 2014 استثمار 177 مليون دولار.

أسواق العمل

ــ يؤدي تأجيج التنافس على الوظائف من قبل القادمين الجدد إلى زيادة معدلات البطالة وأنشطة الأعمال غير الرسمية بنسبة 10 نقاط مئوية، ما يضيف 220 ألف إلى 324 ألف لبناني إلى صفوف العاطلين من العمل بحلول عام 2014.
ــ معالجة الزيادة المفاجئة في عدد الباحثين عن العمل تحتاج إلى موارد تتراوح ما بين 166 مليون و242 مليون دولار.

الصحة

ــ تؤدي الاحتياجات الصحية الملحة للاجئين إلى زيادة التكلفة التي يتكبدها النظام الصحي في لبنان، والى نقص المعروض من الأدوية، وزيادة صعوبة حصول اللبنانيين على الرعاية الصحية (شكل اللاجئون السوريون 40% من إجمالي زيارات الرعاية الصحية الأولية)، وهو ما يمكن أن يفضي إلى زيادة مستويات الإصابة بالأمراض بشكل عام.
ــ يقدر تأثير نظام الرعاية الصحية على المالية العامة بما بين 48 مليون دولار إلى 69 مليون دولار لعام 2014، حسب مستوى تدفق اللاجئين، بينما تحتاج إعادة الخدمات الصحية الى مستوى ما كانت عليه قبل الأزمة الى ما بين 216 مليون و306 ملايين دولار عام 2014.

التعليم

ــ يلتحق 90 ألف طفل سوري بالمدارس في العام الدراسي الحالي (2013ــ2014)، وهو رقم سيقفز الى ما بين 140 ألفاً و170 ألف طفل في العام الدراسي التالي. ونتيجة لذلك، سيتطلب نظام التعليم العام في لبنان مبالغ إضافية تصل إلى ما بين 348 مليوناً و434 مليون دولار عام 2014.

البنية الساسية

ــ تواجه شبكة المياه والصرف الصحي في لبنان زيادة كبيرة ومفاجئة في إجمالي الطلب بنسبة 7% مع زيادة التكلفة على المالية العامة في الفترة من 2012 إلى 2014 بنحو 18 مليون دولار، واحتياجها إلى ما بين 340 مليوناً إلى 375 مليون دولار خلال الفترة نفسها للحفاظ على مستويات توفير هذه الخدمات وجودتها.
ــ أدت الزيادة المفاجئة في عدد السكان إلى زيادة النفايات الصلبة بأكثر من الضعف، ما ساهم في تلويث الموارد المائية وانتشار الأمراض، والتي ستحتاج إلى استثمار ما بين 139 مليون دولار إلى 206 ملايين دولار في إدارة النفايات في الفترة من 2012 الى 2014.
ــ تؤدّي الزيادة الكبيرة والمفاجئة في مستوى الطلب على شبكة الكهرباء إلى زيادة التكاليف بما بين 314 مليوناً و393 مليون دولار عام 2014، مع استثمارات تتراوح بين 310 و440 مليون دولار لزيادة قدرة توليد الكهرباء وتحسين شبكة الكهرباء بنهاية 2014.
ــ تشهد خدمات النقل بالشاحنات انخفاضاً بنسبة 65% في أنشطة الأعمال بسبب تقلص النشاط الاقتصادي، الا أن الحركة المرورية تزداد بنسب تتراوح ما بين 15 و50% في مختلف أنحاء لبنان بسبب القادمين الجدد، مع الاحتياج
إلى ما بين 246 مليوناً و525 مليون دولار في الفترة من 2012 الى 2014 لتغطية تكاليف الصيانة الإضافية للطرق، وزيادة نطاق النقل العام وصرف تعويضات لمشغلي الشاحنات.
■ المصدر: البنك الدولي.