يسود الاحتيال الوضع السياسي العام في البلاد وإدارة الملفات الاجتماعية والاقتصادية. منظومة متكاملة، متآكلة، متكافلة، متضامنة في ما بين أقطابها، تغيّب ثقافة الصالح العام، وتغلّب تبادل المنافع الضيقة.كان لا يمكن إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة هي من حق موظفي القطاع العام في مقابل سحب التقديمات الاجتماعية التي أصبحت حقوقاً مكتسبة لأساتذة الجامعة، وفي طليعتها صندوق التعاضد. وكان قانون السلسلة يستهدف أيضًا صندوق تعاضد القضاة. أضرب القضاة واعتصموا وشلّ العمل القضائي. في المقابل، نظّمت رابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللبنانية تحرّكات خجولة (هل كان حسن النية منطق العمل النقابي؟). وجالت الرابطة على السياسيين الذين أغدقوا عليها بالوعود إلى حد أن ثمة من أشار إليها بمحاباة السياسيين والعمل وفق أجندتين متوازيتين: الأجندة النقابية والأجندة السياسية. إلى أن أوصلها احتيال السياسيين إلى حائط مسدود، فلم تعد مطاردة الوعود مجدية، وتطوّر سلّم التصعيد بشكل تدريجي من المؤتمرات الصحافية إلى الإعتصامات والوقفات الاحتجاجية إلى الإعلان عن الإضراب المفتوح حتى تحقيق المطالب.
بعد إعطاء القضاة ثلاث درجات تمّ تمريرها في الجلسة التشريعية الأخيرة، أصبح أساتذة الجامعة اللبنانية وحدهم المستثنين من إعادة التوازن إلى رواتبهم على غرار ما حصل مع مختلف شرائح القطاع العام. هذا المطلب يندرج ليس فحسب في إطار العدل والإنصاف، بل تدعمه دراسات علمية لدى الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللبنانية، وفحواها دراسة تطوّر رواتب الأساتذة الجامعيين بالمقارنة مع مختلف القطاعات على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، آخذة في الإعتبار حجم التضخم الحاصل.
يشعر الأستاذ الجامعي بالغبن والسخط معًا. فبعد إغداق الوعود ونكثها، يقوم اللامسؤولون بالخطوة المتفرّدة والقاصمة التي كانت مسؤولة عن التصعيد بحالته القصوى، وصولاً إلى الإعلان عن الإضراب المفتوح. لو كانوا مسؤولين لما بادروا إلى إحداث الإختلال بتمرير ثلاث درجات للقضاة وحدهم، بشكل مهرّب ومريب، ويمعنون، بالمقابل، في تجاهل الأستاذ الجامعي وتهميش وضعيته المهنية التي تعطيه إسوةً بالقاضي الإستقلالية والخصوصية في وظيفته، وبالتالي لا يمكن بأي شكل من الأشكال، الا من قبيل محاولة الاحتيال الفاشلة سلفاً واللامسؤولة، تمريرهذا التجاهل والإمتثال لهذا التهميش.
67 عاماً من عمر الجامعة الوطنية، 70 ألف طالب هم مستقبل البلد وغده المشرق، وثلاثة آلاف أستاذ جامعي هم عقل هذا المجتمع ومحرّكه... ذلك ما لا تقوى عليه محاولات الاحتيال والتجاهل وهضم الحقوق.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية