منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، بدأ يظهر تبدّلٌ (من الأخضر إلى الأصفر الداكن فالبنّي) في لون أجزاء كبيرة من غابات أرز تنورين وحدث الجبة وكفور العَرْبي في جبال لبنان الشمالية. يومها اكتُشفت حشرة «سيفالسيا تنورين» التي هدّدت بإزالة غابة أرز تنورين من الوجود. بعد أكثر عقدين، عاد اليباس ليدبّ من جديد في الغابة التي أُعلنت محمية عام 1999 .
لم يبادر اي من المسؤولين اللبنانيين، مطلع تسعينيات القرن الماضي، للتعامل مع ظاهرة بداية يباس غابة ارز تنورين. تستوي في ذلك السلطات المحلية البلدية والوزارات الحكومية وابن البلدة ونائبها منذ عشرات الأعوام، والوزير أكثر من مرة، بطرس حرب!
إزاء التقاعس عن الاضطلاع بمهمة بهذه الحساسية، وما كان سيرتبه اليباس من كوارث في بلد لطالما تغنى باخضراره، جاءت النجدة من حفنة صغيرة من المتطوعين الذين جعلوا إنقاذ الغابة، على مدى سنوات، شغلهم الشاغل.

«أصدقاء أرز تنورين»
انتدب الراحلان نديم حرب ومنذر داغر نفسيهما لهذه المهمة، فعمدا إلى تأسيس جمعية «أصدقاء أرز تنورين»، ونظّما عبرها حملة واسعة لمحاصرة الخطر الداهم الذي لم يكن يهدد بالقضاء على إحدى أكبر غابات الأرز اللبنانية وأقدمها فحسب، بل وبإزالة معظم تلك الغابات، إن لم يكن كلها، من الوجود. وبعد اتصالات مكثفة بالمؤسسات الأوروبية الأكثر خبرة في التعامل مع المشكلات المشابهة، قصد داغر فرنسا للقاء أحد أكثر المتمرسين في هذا الميدان، غي دومولين، وكان آنذاك مدير الأبحاث في المعهد الوطني (الفرنسي) للبحث الزراعي INRA، ومحرك المجموعة الدولية للبحث في الزراعة المتوسطية (GRAM).

الحشرة المنشار
زار دومولين لبنان مرتين لتقدير المخاطر. مستعيناً بالمعاينة الحسية على الأرض، وبجهود «اصدقاء أرز تنورين» ومهندسين في وزارة الزراعة في جمع نماذج من «اليسروعات» الملتقطة من أرض الغابة والمراقبة المديدة لتحولها إلى حشرات طائرة وتعريتها للأشجار، توصل الخبير الفرنسي إلى تشخيصات وملاحظات دقيقة، نسبياً، حول وجود ما بات يعرف بحشرة «سيفالسيا تنورين» (Cephalcia Tannourinensis) المنشارية التي تفتك بأشجار الغابة.
حشرة «سيفالسيا تنورين» تملك سرعة قياسية في التكاثر وقدرة فائقة على الإيذاء قد تصل إلى القضاء على الغابة


ومن ضمن الملاحظات المرتبطة بالفترة التي تابع فيها الأمر، نهاية تسعينيات القرن الماضي (نشدد على التواريخ، لأن التغيرات المناخية اللاحقة لا بد ان تكون قد أحدثت تبدلات في المشهد)، أن «الحشرات البالغة بدأت تطير في الطبيعة بكميات، منذ أول ايار(1998)، وكان الطيران لا يزال يتواصل في 18 أيار»، وهي «تتوقف ما ان يحلّ الظلام». وأشار إلى ان التزاوج يتم سريعاً، و«تزور الإناث بانتظامٍ براعم الأغصان الصغيرة (العراجين)، وترتاح بين الإبر. وخلال تفتح البراعم، تكون البيوض على الوجه الأسفل للأوراق. وعند التفقيس، تنسج اليرقانات الفتية غلافاً من خيوط حريرية، وتبدأ الاوراق الطرية التي ترعاها الحشرات بالاصفرار». ولفت الى أن اليرقانات «تبلغ في نهاية حزيران وتسقط على الأرض وتُدفن على عمق 10 سم، في تجويفات شبيهة بالبيض يدخل فيها قسم منها في حالة توقف عن النمو، وقد يبقى تحت الارض سنة إضافية، وربما ثلاث سنوات... أما الحشرات البالغة (الاخرى) فيمكن أن تظهر في الربيع التالي». وأوضح تقرير دومولين أنه «لدى التشريح تبين ان المبيضات تنقسم إلى 22 مبيضاً صغيراً تتكون في كل منها بيضتان. وهذا يشير إلى طاقة خصوبة تصل إلى 50 بيضة لكل انثى»، مع ما يعنيه ذلك من سرعة قياسية في التكاثر، وقدرة فائقة على الإيذاء يمكن أن تصل إلى القضاء الحاسم على الغابة، لا سيما إذا أدى اليباس المتنامي للأشجار إلى ظهور حشرات قاتلة إضافية، خصوصاً ما تُسمّى «آكلات الخشب». إضافة إلى إمكان انتقال الحشرة إلى غابات أخرى، ليس في لبنان فقط، في حال لم تتم المعالجة في الوقت المناسب.
أوصى دومولين في تقريره باستخدام مروحية لرش الغابة بالمبيد الحشري ديميلين Dimilin، المتضمن مادة الديفلوبنزورون، في أوائل الربيع، وعلى مدى سنوات عدة، لوجود يرقانات قد تنمو بعد أكثر من سنة. وهو ما حصل بالفعل. ففي سنة العلاج الأولى، 1999، استقدمت مروحية لمباشرة الرش من فرنسا. وتمت الاستعانة في السنوات التالية (2000، 2001، 2002 و2004) بمروحيات الجيش اللبناني، إلى حين تناقص وجود اليرقانات، في المتر المربع من أرض الغابة، من 690 في 1999 إلى 70 في 2004. وتم بذلك اعتبار أن الخطر لم يعد قائماً، وتالياً لم تعد هناك حاجة لمتابعة الرش إلى حين حصول تبدلات تستدعي التحرك من جديد.

الواقع الراهن
ويبدو أن هذه التبدلات حصلت بالفعل منذ سنوات عدة، وهي إلى تفاقم، رغم أنه من المفترض أن الغابة لم تعد متروكة لغدرات الطبيعة والمناخ والتدخلات المسيئة من الناس العاديين، بعد إعلانها محمية طبيعية تحت ضغط جمعية «أصدقاء أرز تنورين» عام 1999. وهناك أكثر من دليل على هذه التبدلات، منها التغيرات الواضحة في ألوان الغابة وعودة الاصفرار اليها ودبيب اليباس في العديد من الأشجار. إلا أن الدليل الأبرز يتمثل بالكثافة المتفاقمة لحشرات السيفالسيا الطائرة في النصف الثاني من الربيع، ولا سيما في أيار، وهي تشكل إنذاراً كافياً بضرورة التصدي السريع للواقع الجديد. ليس فقط بوقف الانتهاكات لقواعد حماية المحميات الطبيعية (كما حصل مراراً في السنوات الاخيرة، ومن ضمن ذلك سماح لجنة المحمية السابقة بالمهرجانات السياحية في عقر دار الغابة)، وبالمثابرة على منع قطع أغصان أشجارها إلا ما يكون ثابتاً أنه يتعرض لليباس، وبالمراقبة الدائمة لتجول الناس ضمنها وطريقة تعاملهم مع مسألة النظافة فيها، فضلاً عن منع تفشي المرامل في المناطق المجاورة لها. بل كذلك، وبوجه أخص، عبر الانتباه للهجمات المستجدة لحشرة السيفالسيا وغيرها من الحشرات القاتلة.
قد تكون هذه الصرخة متأخرة نسبياً، لكن الأمل في أن تصل إلى المسؤولين المباشرين عن حماية غابة أرز تنورين (كوزارات البيئة والزراعة والسياحة، ولجنة المحمية وبلدية تنورين)، وإلى أبناء البلدة المهددين بفقدان واحد من أغلى الكنوز اللبنانية.
على أكثر من صخرة، في جبال تنورين، نقوشٌ باللاتينية، تعود الى أكثر من 2000 عام، صادرة عن الإمبراطور الروماني، أدريانوس، تمنع قطع الأشجار. وهي تشدد، من بين تلك الأشجار، على اللزاب والشوح والسنديان، وخصوصاً شجر الأرز. فعسى أن تهتم بلدية تنورين، ولجنة المحمية في البلدة، ومن ورائهما الوزارات المختصة، بالروح التي تنبعث من تلك النقوش، في العلاقة بإحدى أهم غابات هذا الشرق!