يشعر من يتعرّض لبتر أحد أطرافه، أحياناً، بألمٍ في الطرف الغائب منه (يُسمّى بألم الطرف الشبحي أو وهم الأطراف). هكذا هي حال غالبية أهالي المفقودين والمخفيين قسرا في الحرب الأهلية اللبنانية. يُعاني هؤلاء منذ نحو أربعين عاماً من آلام لم تُشفَ بعد. يقول بعضهم إنهم يتفهّمون استغراب محيطهم من عدم قُدرتهم على النسيان أو من عدم استسلامهم بعد تلك السنين لأنّ شعور الفقد الذي يعانون منه لا يُمكن فهمه. في حالة هؤلاء، النسيان لا يشفي، بل يؤلم أكثر. التذكّر يفعل.تقول نهاد الجردي (76 عاما) التي فقدت ولدها أيمن عام 1982 وهو في الواحدة والعشرين من العمر، إنها أصبحت أقوى منذ ست سنين، أي منذ مُشاركتها في برنامج مرافقة أهالي المفقودين الذي تُنفّذه اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والذي يهدف الى تقديم نوع من الدعم النفسي لأهالي المفقودين عبر القيام بنشاطات منها تنظيم جلسات بين أهالي المفقودين ليتشاركوا تجاربهم ولخلق نوع من «الانتماء الى الجماعة»، بحسب ايلي سركيس أحد الموظفين العاملين في اللجنة، إضافةً الى تنظيم جلسات حوارية فردية مع إختصاصيين نفسيين عاملين في البرنامج.

المفقود من رقم إلى هويّة
من تحت الشجرة التي اعتادت أن تشرب قهوتها معه في بيتها في العزّونية في جبل لبنان، تُحدّث العجوز «الفتيّة» عن أهمية أن يُشاركها أحد الحديث عن وليد روحها أيمن، أو حتّى أن يسمع منها عنه. تقول إنها لم تشعر يوماً بأن أحداً يُريد أن يعرف منها تفاصيله التي لا تزال تحفظها عن ظهر قلب. لا أحد يريد أن يعرف عن كنزة الصوف التي غزلتها له يوما قبيل اختطافه، ولا عن شهاداته التي حصّلها وهو في السادسة عشرة، ولا عن عمله في بنك لبنان والمهجر في الحمرا، أو عن سهراته الكثيرة التي كان يراقص أُمّه فيها.
بحسب مُنسّقة المشروع في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، روبينا تاهمازيان، يدور برنامج الدعم النفسي لأهالي المفقودين حول مُشاركة التجربة بهدف استيعاب الفقدان من جهة، وإعادة مكانة المفقود من رقم الى هوية من جهة أخرى. وتوضح أنّ نشاطات البرنامج تهدف إلى مساعدة الأهالي على النضال ضدّ النسيان سعيا الى التخفيف من العبء الذي ينتاب أهل الفقيد. هذا الكلام يتوافق وما تقوله نهاد عن أن «أي شخص يكتب أو يتحدث معي عن ابني أشعر بأنه يُزيل عني جزءاً من الهمّ».
يهدف البرنامج الى مساعدة الأهالي على النضال ضدّ النسيان


بحسب تاهمازيان، يعاني أهل الفقيد نوعاً من «العزل العاطفي» الذي يستوجب التدخّل على مستويات عدّة من ضمنها مُستوى المحيط الإجتماعي الذي لا يستطيع فهم ضبابية الفقدان الذي يشعر به أهل الفقيد «الذين غالبا ما يشعرون بالذنب لعدم قدرتهم على كشف مصيره ويبقى تركيزهم عالقا معه». وتنقل، في هذا الصدد، عن إحدى الأمهات قولها: «أنجبتُ أربعة أبناء، ولكن ليس لدّي الا ابن واحد هو المفقود»، في إشارة الى الحيّز الذي يحتله الابن المفقود.
هذا الواقع، ما كان ليكون كذلك لو أن السُلطات اللبنانية أعارت اهتماماً لهذا الملف. فالإمعان في تهميش الملف والتكتّم عنه، يبقي الأزمة المعنوية التي يعاني منها أهالي المفقودين عُرضةً للتطور.
وفق تاهمازيان، يُعاني أهل المفقود من «الفقدان المُبهم». هذا النوع من الفقد لم يُدرج بعد كفئة تخضع للدراسة من أجل إعطائه مفهوما واضحا أو تعريفا له أو للأزمات المعنوية التي تنجم عنه. لذلك يغدو عدم تفهّم المحيط لحالة أهالي المفقودين وتعلّقهم بالكشف عن مصير أحبائهم بعد سنوات طويلة «مُتفهًّمًا». من هنا تكمن أهمية هذا البرنامج، بحسب القيّمين عليه، إذ إنّ جلسات التشارك بين الأهالي تولّد نوعاً من الشعور بالإنتماء الى جماعة معينة وتساعدهم في التعبير عن المعاناة.

طقوس خاصّة بالمفقود
«نيال اللي عندو مقبرة». قالتها يوما أُمّ فقيد. أوحت بأنّ معرفة مكان دفن ابنها كفيل بأن يُريح شعورها المُضني الذي يلازمها منذ عقود. في حديثهم الى اهالي المفقودين، كان العاملون في البرنامج يسمعون من الأهالي عبارات تحسّر حول عدم إقامتهم صلوات أو جنازات دفن لأحبائهم.
يقول ايلي سركيس، أحد العاملين في المشروع، إن «هناك طقوسا خاصّة بالميّت، كذلك بالنسبة للحي في حال الأفراح»، لافتا الى أن أهالي المفقودين يعانون من حرمان من هذه الطقوس والتقاليد. وبالتالي، «خلق هذا النوع من الطقوس يُساهم في تحقيق نوع من الشعور بالرضى لديهم».
من هنا، يأتي نشاط الرسم على الكراسي الذي نظّمته اللجنة الدولية ويقضي برسم الأهالي لمفقوديهم على كراس. تشرح تاهمازيان رمزية الإنتظار الذي توحي به الكرسي، إضافة الى ان هذا الرسم الذي سيُعرض في معارض تُنظّمها اللجنة كفيل بإشعار الاهالي بأن صوتهم بات «معروضاً» و«مسموعاً».



بس بدي صوّت، بدي نزّل صورة ابني المفقود
«من فترة قدّمت على إخراج قيد عائلي. اسم أيمن كان بعدو على إخراج القيد. يعني الدولة مش قادرة تحسم مصيرو. كيف بدي انسى وما يكون عندي أمل؟». هذا ما تقوله نهاد الجردي قبل أن تلوم الدولة التي لم تكترث لجراحها، كما جراح 17 ألف أسرة، منذ سنوات. تقول المرأة السبعينية: «أنا بس بدّي صوّت، بدي نزّل صورة ابني المفقود».