الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السوق التجاري في صور، حالها من حال تلك التي يعاني منها البلد عموماً. لكن ضعف الاقبال مردّه، بحسب ما يؤكد كثر من أصحاب المحال في السوق، إجراءات السير التي فرضتها بلدية المدينة منذ سنوات: عُرّضت أرصفة المشاة وضُيّقت الشوارع وحُوّل السير في اتجاه واحد. فيما عناصر الشرطة البلدية متأهبون دائماً. من يفكر بركن سيارته إلى جانب الطريق ليقصد محلاً ما، ولو لدقائق، ستكون محاضر السير وحجز السيارات له بالمرصاد. التطبيق الصارم للقانون لم يعوّد الناس على الإلتزام به كأن يركنوا سياراتهم في المواقف المدفوعة ويمشوا إلى مقاصدهم. بدلاً من ذلك، لجأوا إلى الحل «الأسهل». كثر منهم هجروا أسواق المدينة الى المراكز التجارية التي استحدثت على أطرافها. هناك، يجد الزبون موقفاً واسعاً لسيارته من دون بدل، ويتجنّب زحمة السير التي تلازم المدينة بسبب كثرة السيارات وضيق الشوارع.
تأخر إنجاز البنى التحتية شمل «حارة المسيحيين» بآثاره السلبية (علي حشيشو)

المسؤول عما يسميه تجار صور تدميراً لاقتصادها هو مشروع «الإرث الثقافي وتنمية المناطق الحضرية» الذي يهدف أساساً، وللمفارقة، إلى تحويل المدينة قبلة سياحية وثقافية تراثية ودعم الأنشطة الاقتصادية والمجتمعية وخلق وظائف للمقيمين وتحسين معيشتهم. للوصول إلى ذلك، دخلت صور عام 2003 ورشة ضخمة لتأهيل البنى التحتية وتطويرها واستحداث مبان ومساحات عامة.

عولمة «أكثر من اللزوم»
يرى رئيس جمعية تجار صور، ديب بدوي، أن ما يعانيه السوق الشعبي لا يمكن إنكاره. لا يتحمل «الإرث» وحده المسؤولية، وإنما أيضاً التوسع الذي تعيشه أطراف المدينة وزيادة المنافسين. رغم ذلك، لا يتفق مع رؤية البلدية «المتعولمة أكثر من اللزوم». يأس أكبر يظهر بوضوح على التجار داخل السوق الذين رأوا أنه فقد صفة «الشعبية» لأسباب عدة، بينها بالتأكيد «مشروع الإرث الثقافي»، إضافة إلى الأسعار العالية للإيجارات التي تصل إلى ثلاثة آلاف دولار شهرياً. وفي رأيهم، ليس في هذه المبالغ إرث ولا ثقافة!
مشروع «الإرث الثقافي» مسؤول عما يسميه تجار صور تدميراً لاقتصادها


بالنسبة الى تجار الذهب والثياب والسمك وغيرهم، المنتظرين للزبائن على الأبواب، فإن حب الناس للسوق التاريخي ليس كافياً. وهو لن يدفعهم إلى تحمل الإزدحام المروري الكثيف، ولا ضيق الشوارع، ولا التكاليف التي «اخترعها» مشروع «الإرث» كدفع بدل مالي لمواقف السيارات.

خمس سنوات من التأخير
المشروع المؤلف من ثلاث مراحل (دخل المرحلة الأخيرة قبل عامين)، كان مقرراً أن يُنجز في غضون عشر سنوات، أي بحلول عام 2013. رغم ذلك، لم تنته الورشة الضخمة بعد، ولم يلمس الصوريون، مقيمين وتجاراً، شيئاً من فوائده الموعودة، ولا من أهدافه المعلنة، وأبرزها «المحافظة على الإرث الثقافي والحضاري للمدينة»، و«معالجة التدهور البيئي والمديني في المدينة القديمة وتحسين الظروف المعيشية للسكان». فما الذي تحقق، غير الجدل بين التجار الذين اعتبروا المشروع قطعاً لأرزاقهم، والبلدية التي ترى في المشروع أهمية قصوى للمدينة المدرجة على لائحة التراث العالمي منذ 1984 وتصنيفها مدينة تاريخية وسياحية على حوض المتوسط؟
خلال مراحل التنفيذ، عانى سكان المدينة وزوارها من أشغال الحفر والتأهيل التي أعيد بعضها مرات عدة بسبب خلافات بين الجهات المخططة والجهات المنفذة وبلدية صور. بعض الطرق قُطع وأعيد فتحه مراراً. وبعض الأشجار زُرعت ثم قُطعت بعد تعديلات. وبعض أقسام المشروع التي لم يتم افتتاحها رسمياً اصبحت في حال مزرية ويلزمها الكثير من الصيانة، حتى قبل استلامها.

تحسين الظروف المعيشية للصيادين عبر بيع أسماكهم مباشرة إلى الزبائن لم يتحقق (علي حشيشو)

ساحة البوابة التي خطط لها «الإرث الثقافي» لتصبح مساحة عامة للتنزه وإقامة المعارض والإحتفالات الثقافية والفنية، اقتطع قسم منها وحُوّل مواقف للسيارات بإدارة البلدية. فيما حُوّل قسم آخر إلى سوق شعبي لبيع الخضر واللحوم والملابس... وبين هذا وذاك، لا يزال موقف سيارات «السرفيس» قيد التشغيل وسط صخب وفوضى لم يؤثر فيهما «الإرث الثقافي» ولا «التنمية المدينية». نافورة المياه الكبيرة التي استحدثت وسط ساحة كانت طريقاً للسيارات في اتجاهين، «رقصت» المياه فيها عقب إنجازها لفترة وجيزة، قبل أن تنقطع وتصبح مستوعباً

للنفايات والمياه المبتذلة!
على بعد أمتار من الساحة، انتقل مقر نقابة الصيادين من جوار المرفأ التجاري إلى جوار مبنى السراي التراثي. عند مدخل حارة المسيحيين المصنفة سياحية، ارتفع مبنى من طبقتين عند رصيف ميناء الصيادين. تقرر استخدامه كمقر للنقابة وسوق لبيع السمك بالمزاد العلني واستراحة للصيادين، رغم اعتراضات الهيئات التراثية والأثرية على تشييد المبنى لوجود آثار تحته ولحجبه الرؤية من السوق التجاري باتجاه ميناء الصيادين والبحر وحارة المسيحيين. أنجز المبنى، لكن الغاية الرئيسية من تشييده لم تتحقق بعد. إذ لم يفتتح سوق السمك لكي يبيع الصياد مباشرة للزبون من دون المرور بالوسائط التي تقتطع من ثمن بضاعته.
الحب للسوق التاريخي ليس كافياً لتحمل التكاليف التي «اخترعها» المشروع


حارة المسيحيين، من جهتها، لم تنتظر إنجاز «الإرث الثقافي». توصلت بنفسها للتنمية المدينية، مبتدعة سبلاً للإستثمار السياحي. لكن تأخر إنجاز البنى التحتية التي شملتها، له آثاره السلبية عليها أيضاً.
نائب رئيس بلدية صور صلاح صبراوي اوضح لـ«الأخبار» أن المشروع وصل إلى مراحله النهائية التي تتضمن أعمال تشجير واستحداث نوافير مياه في الساحات العامة. وعزا تأخر إنجازه الى عدم دفع الأموال المستحقة للمتعهدين. يقرّ صبراوي بالضرر الإقتصادي الذي مني به تجار السوق الشعبي جراء المشروع، لكنه يعدهم بأن النفع سيعود عليهم «على المدى الطويل». إذ تحضّر البلدية، بعد انتهاء المشروع، للائحة طويلة من الأنشطة التي «ستعيد الحياة إلى السوق». يؤكد نائب رئيس البلدية أن الصيف يعد بالكثير. يتحدث عن مؤشرات إقتصادية إيجابية تتمثل في فتح مزيد من المراكز السياحية، كالمطاعم والفنادق، إضافة إلى إرتفاع أسعار الأراضي داخل المدينة. إذ يصل سعر المتر أحياناً إلى 13 ألف دولار. وهو يعتبر ذلك حدثاً إيجابياً. هكذا بكل بساطة!



بث الحياة في المدينة وتحسين الظروف المعيشية
منذ عام 2003، يشارك البنك الدولي والحكومتان الإيطالية والفرنسية الحكومة اللبنانية في دعم مشروع «الإرث الثقافي وتنمية المناطق الحضرية»، وهو برنامج طموح يركز على إعادة إحياء خمس مدن تاريخية هي طرابلس وجبيل وبعلبك وصيدا وصور، بأحيائها المكتظة بالسكان، وبآثار تعدّ من التراث العالمي. ويهدف المشروع إلى تجديد أجزاء من هذه المدن وإعادة تأهيلها للمساعدة على خلق الوظائف وبناء مجتمعات محلية أكثر شمولا لكافة فئات المجتمع.
قائمة التحسينات التي ينفذها المشروع في مدينة صور تشمل توسيع ممرات المشاة وتجهيزها بأعمدة إنارة، وإعادة تأهيل الشوارع التاريخية، وتأهيل ميدان جديد وساحة سوق رسمية كبيرة لتجار الخضروات والملابس واللحوم، وبث الحياة في الميناء والأحياء التاريخية المحيطة به، وتوسيع أرصفة الشحن وبناء رصيف جديد وإصلاح التجهيزات والمعدات، وبناء مخزن للمعدات التي لا تستخدم بصورة دورية، وهدم مبنى سوق الأسماك القديم وإنشاء هيكل محسن لإيواء مكتب تعاونية صيادي الأسماك، ومقهى، وسوق جديد لبيع الأسماك بالمزاد العلني للمساعدة في تحسين الظروف المعيشية للصيادين عبر بيع أسماكهم مباشرة إلى الزبائن، والحصول على مردود وفق القيمة السوقية الحقيقية.