9 من 10 تلامذة في الخامس أساسي في إحدى المدارس الابتدائية الرسمية في عكار يطمحون إلى إنجاز السابع أساسي والالتحاق بالجيش. هذه ليست إحصائية من القرن الماضي، بل إحدى نتائج دراسة حالة أعدها مركز الدراسات اللبنانية في العام الدراسي 2012 ــ2013. هي واحدة من نتائج السياسات التربوية الرسمية التي قاربت «العدالة الاجتماعية» بصورة مجتزأة، تقول رئيسة المركز د. مهى شعيب أمام طلاب من قسم التربية في الجامعة اللبنانية الأميركية.
من علامات هذه السياسات أن تسمع شعيب شكاوى من معلمين عن تفاوت كبير في القدرات بين تلامذة الأول أساسي. تعلّق الباحثة: «هذا طبيعي ومفهوم، لأنّ مرحلة الروضات غائبة عن مدارس رسمية كثيرة، والحل هنا يكون بتدريب المعلمين على التعاطي مع هذه القدرات المختلفة».
إلا أنّ سياسات وزارة التربية منذ اتفاق الطائف أهملت، بحسب شعيب، نوعية التعليم لمصلحة الاهتمام بفرص الوصول إلى التعليم، فازداد عدد المدارس الرسمية ليعادل عدد المدارس الخاصة، بينما لم تتجاوز نسبة الالتحاق بكل مراحل التعليم الرسمي 30%، وذلك وفق إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء في عام 2012.
وتلفت الباحثة إلى أنّ 27% من تلامذة البريفيه يتسربون من المدرسة «ولا نملك معلومات دقيقة عن المكان الذي يذهبون إليه»، مشيرة إلى أنّه «ليس لدى التلامذة حافز لاستكمال التعليم الذي يهدف عملياً إلى رفع مستوى الطبقات المحرومة، وكأن النظام التربوي الحالي يعيد إنتاج التفاوت الطبقي».
برأي شعيب، المفارقة تكمن في أن سياسات تعزيز التماسك الاجتماعي أهملت مفهوم «العدالة الاجتماعية» لمصلحة التركيز على تعزيز قيم المواطنية والانتماء للوطن.
لكن هذه القيم بقيت أيضاً، كما تقول، مثلاً عليا منفصمة عن الواقع وأسيرة كتب التربية المدنية واللغات من دون أن يترافق تغيير المناهج التربوية في عام 1997 مع تغيير في البيئة المدرسية. فكتب التنشئة المدنية والتربية الوطنية متحيّزة لمصلحة الطبقة الوسطى، بينما يختفي أبناء عكار والبقاع والهرمل ليظهروا نادراً بشكل فولكلوري. أما المرأة التي ترتدي الحجاب فهي تظهر في صور هذه الكتب في مواضع محددة، فهي إما تدق جرن الكبة أو تظهر كلاجئة من الحرب أو في مأوى للعجزة. وقد أظهرت دراسة أجراها المركز اللبناني للدراسات سيادة الطائفية عند غالبية التلامذة الذين شملهم البحث في 26 ثانوية، ما يثبت فشل سياسات الوزارة في تعزيز الوحدة الوطنية (شعيب، 2012).
شعيب نفسها صادفت خلال أبحاثها الميدانية في المدارس الرسمية عبارات ومواقف تعكس كيف أن المدرسة تعلم الديموقراطية وتمارس الديكتاتورية، كأن يقول أحد المعلمين «التربية على المواطنية أكبر كذبة، ما نتعلمه في مادة التربية الوطنية مثل لا تحاكي الواقع»، وكأن تحاول إحدى المعلمات ضبط الصف بالقول «اخرسوا بدنا نحكي عن الحوار».
مركز الدراسات اللبنانية لمس هذا الجو عندما أجرى دراسة في العام الدراسي 2011 ــ2012 في إحدى ثانويات بيروت طلب منها تنظيم نشاط يجسد الديموقراطية، فاقترح المدير والطاقم التعليمي إجراء انتخابات لطلاب المرحلة الثانوية نزولاً عند رغبة التلامذة. وكانت النتيجة أن تقدم طالبان اثنان ببرنامج انتخابي، لكنهما لم يصلا إلى المجلس الطلابي، فيما راح الآخرون ينظمون حملات مشابهة لحملات السياسيين، وقد وضعوا النظارات الشمسية ورفعوا اللافتات ووزعوا «البوشار» والحلويات على الطلاب الناخبين لاجتذاب أصواتهم. الناخبون اقترعوا لممثليهم في المجلس على أساس الصداقات الشخصية، وبغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية. وقد ترشح لرئاسة المجلس طالبان ينتميان إلى طائفتين مختلفتين، فقرر ناظر المرحلة الثانوية الضغط على الطلاب وإجبارهم على انتخاب المرشح الذي ينتمي إلى طائفته، تحت طائلة صرفهم من المدرسة، وهكذا صار. المتضررون شكوا الأمر إلى الإدارة، وقد تطوعت إحدى المعلمات لإبلاغ وزارة التربية، إلا أنّ ذلك لم يؤدّ إلى تغيير في نتائج الاستحقاق. وفي تقييم للتجربة نهاية العام نفسه، قال الطلاب لمركز الدراسات إنّ رئيس المجلس لم يفعل شيئاً ولم يمثل الطلاب تمثيلاً صحيحاً، مقترحين للانتخابات المقبلة ضرورة أن يفرض على كل مرشح إعداد برنامج انتخابي ليحاسب عليه، لكن الانتخابات جرت مرة واحدة فقط ولم تتكرر في العام التالي.
في مجال آخر، بات شائعاً رفع لافتة على باب المدرسة «ممنوع الحكي بالسياسة»، وهنا تجزم شعيب بأنّها نادراً ما التقت معلماً أو مديراً في المدرسة الرسمية يوافق على الحديث في السياسة خلال حصص التربية والتاريخ وعلم الاجتماع، فيما المفارقة أنه لا مانع لدى هؤلاء من أن ينفجر الخلاف بين الطلاب المتنوعين شرط أن يكون ذلك خارج أسوار المدرسة، وهذا حصل فعلاً، كما تقول، عند مدخل إحدى المدارس في بيروت.
في المقابل، لم تغفل شعيب الحديث عن الجوانب الإيجابية في الرؤية الاستراتيجية التي أعدتها وزارة التربية في عام 2010 لجهة محاولة التطبيق العملي لمفهوم المواطنية، وإن كان ذلك اصطدم ولا يزال بمعوقات قد لا تكون الوزارة وحدها مسؤولة عنها بالكامل. ومن هذه الجوانب أيضاً إجبار الطلاب على إنجاز 60 ساعة خدمة اجتماعية كشرط أساسي للتخرج من الثانوية العامة، على أن يبدأ اعتماد ذلك ابتداءً من العام الدراسي المقبل. كذلك توضح شعيب أنّ خطة النهوض التربوي التي هي في حيز التنفيذ ركزت على تحسين نوعية التعليم ومكافحة التسرب المدرسي في الشمال والبقاع.