يبدو أنّ السُلطة تستمتع بعروض يوسف ملّاح «التراجيديّة». لا شيء آخر يُفسّر سبب عدم تلبية مطلبه. ليس مطلبه هذا سوى: نحن، متطوعي الدفاع المدني، ثبّتونا. السُلطة، وخلال السنوات الماضية، وظّفت كلّ مَن يخطر في البال، وكذلك مَن لا يخطر، في ملاك الدولة... إلا «جماعة» الدفاع المدني. العروض الموسميّة لملاح، أشهر متطوع في تاريخ الجمهوريّة، لم تتوقّف. أمس ربط نفسه ورفاقه بجنازير في ساحة رياض الصلح، مطلقاً صرخته العاطفيّة المعهودة، ليصل الصوت إلى الحكومة المجتمعة في السراي: «ولك ثبّتونا». قبل خمس سنوات، قرّر يوسف أن ينطلق في البحر سباحة، مِن شاطئ الرملة البيضاء إلى عمق المتوسّط، إلى أنّ يهلك فيغرق، في حال لم يُقرّ التثبيت. الحدث كان يُبثّ على الهواء مباشرة. رئيس مجلس النواب نبيه بري طلب مِن وزير الداخلية آنذاك، نهاد المشنوق، أنّ يُسارع بأخبار «السبّيح» أنّ مشكلته ستُحلّ، وإلا «في حال غرق فستكون فضيحة». ذهب زورق إلى الشاب وأخبره أن صوته وصل. عاد إلى الشاطئ. انتهى إلى هنا فيلم الكوميديا السوداء. كانت خدعة، فهم الملّاح هذا لاحقاً، إذ وفت السُلطة ببعض ما وعدت لكنها أخلفت بأشياء أخرى. الخلاصة، إلى اليوم، وبعد كلّ تلك السنوات، لم يبّت بشأن التثبيت. خلال السنوات الماضية أبدع الشاب ورفاقه بأساليب الاحتجاج. نشروا أنفسهم مرّة عند كلّ الحدود اللبنانيّة، إشارة إلى عدم طائفيتهم ومناطقيتهم، ونصبوا الخيم واعتصموا. كلّ ذلك لم ينفع. هناك شخص أحرق جسده مطلبيّاً، قبل مدّة، فنُسي ذكره بعد أيّام قليلة على موته. إن كان الموت مِن أجل مطلب محقّ لا يجدي نفعاً في هذه البلاد، فما بالك بما دون ذلك.
«بدهم كل واحد فينا يلجأ لزعيم طائفته وهيدا الشي يلي ما عملناه ولا رح نعمله»

بالمناسبة، يوسف ملّاح، وباسم سائر المتطوعين في الدفاع المدني، يطلب الخضوع لمباراة محصورة، تشمل من تتوفر فيه الشروط، وذلك بحسب القانون الصادر عام 2014. شخص يطلب أن يكون قانونيّاً تماماً، أن يكون شرعيّاً، لا أن يوظّف بالتهريب والواسطة وخلافاً للقانون، ومع ذلك لا يُسمع له. لا يُفهم مِن هذا إلا أننا أمام دولة لا تحتاج إلى دفاع مدني أصلاً، دولة المعجزة، المسؤولون فيها يُريدون للناس أن يموتوا في الحوادث مِن غير أن يكون هناك مَن ينقذهم... أمّا التوظيف في «أوجيرو» وأخواتها فهو حاجة حياة أو موت لهذه الدولة. هذه هي الخلاصة. يقول ملّاح: «رح يموتوا لأننا مش طائفيين ولا مناطقيين. حاولوا كتير يفرقونا وما زبطت معهم، بدهم كل واحد فينا يلجأ لزعيم طائفته، وهيدا الشي يلي ما عملناه ولا رح نعمله، ولهيك عم يصير معنا كل يلي عم يصير». يبدو أن الشاب، اللطيف أكثر مِن اللازم، بات يفهم اللعبة جيّداً. راقب جيّدا حركة التوظيفات الحكوميّة التي جرت أخيراً، خلافاً لقانون سلسلة الرتب والرواتب، والتي انطلقت حركتها قبيل الانتخابات النيابيّة الأخيرة، لذا يقول: «هيداك توظيف كان في من وراه تصويت بالانتخابات، وهني بيعرفوا انو توظيفنا نحن ما كان رح يفيدهم بأي تصويت، لهيك ما توظّفنا». كان المتطوعون يمنّون أنفسهم أن توضع قضيتهم على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء أمس، ولكن بعد اطلاعهم على الجدول لم يجدوا ذكرهم، علماً أن وزيرة الداخلية ريا الحسن كانت قد أشارت، قبل أكثر مِن شهر، إلى نيّتها رفع الملف إلى مجلس الوزراء. لا يبدو أن ملّاح سيكفّ عن عروضه الرهيبة. سيكون لديه أشياء جديدة قريباً. كثيرون ما عاد يلتفتون إليه، حتّى إعلاميّاً ما عاد الرجل «مادة» مهمة، بعدما وصل إلى الذروة سابقاً. لو كانت تلك الاحتجاجات تزعج الحكومة لكانت لبّت المطلب، لكن من الواضح أن الأمر بات مسلّياً لها، وبالتالي لا مانع أن تستمر العروض في الشارع. هذا يعطي أيضاً انطباعاً أن هناك ديمقراطيّة وحريّات وما شاكل في لبنان.