ليس سهلاً التقاط الخيط بين استقطاب الدعم الدولي للبحث العلمي وخلق هوية بحثية وطنية، يقول رئيس مجلس الأبحاث في جامعة البلمند د. شفيق مقبل. برأيه، في لبنان هناك الكثير من الإنتاجية البحثية وفي مجالات متعددة والقليل من ثقافة البحث والرؤية التي تسخر الموارد لخدمة حاجات المجتمع المحلي. ما يحصل، بحسب مقبل، أن «طلابنا الباحثين يتابعون الدكتوراه في الخارج وينجزون أبحاثاً في مسائل مرتبطة بالمكان الذي يوجدون فيه، وعندما يعودون إلى مجتمعهم الأم يجرّبون البحث في قضاياه، لكن الأمر لا يسير بالوتيرة السريعة التي يجب أن يسير فيها». المهمة ــ كما يقول ــ تصبح أكثر تعقيداً عندما يفضل النسيج الاقتصادي مثلاً استيراد الأفكار الصناعية، ليجعلها تتناسق مع الحاجات المحلية، بدلاً من أن يستثمر في الأفكار الجديدة التي يقدمها الباحثون اللبنانيون بذريعة أنّ «السوق المحلية ضيقة وحجم المؤسسات الصناعية محدود وما فيها تستثمر بالأبحاث
الكبيرة».
لكن ماذا لو كانت50% من منشورات البحث العلمي في لبنان تقع في فخ الاعتماد على باحثين دوليين لا تعنيهم مشاكلنا الاجتماعية؟ النسبة يفصح عنها مستشار العلوم الطبية في المجلس الوطني للبحوث العلمية د. فواز فواز، خلال مؤتمر «البحث العلمي والتعليم العالي: التحديات والآفاق» الذي نظمته رابطة جامعات لبنان. يقول إنّ المجالات البحثية نفسها تتكرر كل عام وتتركز على العلوم الأساسية (فيزياء، كيمياء، رياضيات، علوم الكومبيوتر) والهندسة وعلوم الحياة (البيولوجيا) والطب الإحيائي، فيما تكاد الطلبات التي تنتظر دعم المجلس الوطني للبحوث العلمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية تكون شبه معدومة.
المجلس نفسه لم يتوصل إلى حل لهذه المشكلة التي يعزوها فواز إلى أنّ الباحثين الاجتماعيين يفضلون نشر أبحاثهم في الصحف والمجلات، على أن يضعوها في مجلات علمية محكمة.
إلا أنّ أستاذ الألسنية في الجامعة اللبنانية د. هيثم قطب، يقدم صورة مغايرة، فيتحدث عن «فائض في الأفكار ومشاريع الأبحاث في المجالات الإنسانية والاجتماعية في جامعتنا»، سائلاً عما إذا كان بإمكانهم التقدم إلى المجلس للحصول على الدعم، فأجاب فواز: «طبعاً، هذا ما ننتظره، شرط أن تتوافق هذه المشاريع مع المعايير التي تحكم الأبحاث العلمية».
لم نصل بعد إلى مأسسة البحث العلمي، يعترف فواز. يسوق بعض الوقائع: الجامعات التي تجري أبحاثاً علمية جدية لا تتجاوز أصابع اليدين. أقل من 10% من الأساتذة هم باحثون. يخصص الأساتذة 1 إلى 2% من وقتهم للبحث العلمي. ما من إحصاء نظري لعدد العاملين فعلياً في مجال الأبحاث. بعض هؤلاء أجروا أطروحاتهم في الخارج ويخدمون المجتمعات التي درسوا فيها، آخرون يعملون وحدهم، لا ضمن فرق بحثية، ولا يحصلون على الإمكانات المطلوبة لإنجاز البحث. أما القسم الأكبر من الباحثين، فيرزحون تحت عبء ساعات التدريس الكثيرة التي تغرقهم فيها إدارات جامعاتهم». مع ذلك، 90% من الأبحاث العلمية في لبنان تجري في الجامعات، بحسب فواز، والباحثون هم موظفون ولا يستطيعون القول إنّهم يملكون أبحاثهم وقادرون على بيعها في الخارج. المفارقة التي يسجلها هي «أننا لا نعرف على سبيل المثال ماذا تنتج المستشفيات من أبحاث؛ لأن من يجري هذه الأبحاث هم أساتذة الجامعات المرتبطة بهذه المستشفيات».
لا انفصال بين البحث العلمي وخدمة المجتمع، وبالتالي فالانتظارات من البحث لا يمكن أن تكون كثيرة في مجتمع استهلاكي غير منتج وفي بلد تسيطر فيه العقلية الريعية على العقلية الإنتاجية، يقول مسؤول العلاقات الدولية في جامعة سيدة اللويزة د. بيار جدعون.
برأيه، لا بديل من إدخال منظومة «التربية المبنية على البحث العلمي» منذ السنة الجامعية الأولى، وليس في حلقة الدكتوراه فحسب، وأهمية تعزيز العلاقة بين الجامعات والقطاعات الإنتاجية، ولا سيما الزراعة والصناعة. يستبعد جدعون أن يفكر الأستاذ الجامعي في البحث العلمي إذا كان مضطراً إلى العمل في أكثر من مكان كي يؤمن أبسط مقومات العيش الكريم له ولعائلته. اللافت هنا ما يحذر منه رئيس مجلس الإدارة في المجلس الوطني للبحوث العلمية د. جورج طعمة، وهو تحول التعليم الجامعي إلى الاعتماد على المعلومات المستخدمة في أنحاء مختلفة من العالم، فيما ينبغي للجامعات أن تتكل على إنتاجيتها الذاتية بتشجيعها للبحوث وضم نتاجها إلى المناهج التعليمية.
في المقابل، تتوقع وزارة الصناعة، بحسب المهندس د. إيلي عوض، من الجامعات مبادرات لتطوير الإنتاج الصناعي، ولا سيما في مجال الصناعات الغذائية.
الأمر، كما يقول، يحتاج إلى لوبي لتعزيز التفاعل بين الباحث والصناعي، على أن ينال الأخير على البحث المجدي الذي يقدمه للوزارة حسماً على الضرائب.
يقول عوض إن العمل لا يزال خجولاً في هذا المجال؛ فالباحثون لا يعرفون ما هي القطاعات الأساسية التي يجب أن يبحثوا فيها، فيما يخشون إعلان أبحاثهم نتيجة ضعف تطبيق حماية الملكية الفكرية.
للجامعات ما تقوله أيضاً بشأن العوائق التي تعترضها؛ فرئيس رابطة جامعات لبنان د. وليد موسى، يشير إلى أن «ميزانيتنا كجامعات خاصة أو كجامعة لبنانية أو كوزارة أو كمجلس وطني للبحوث لم ترتق بعد إلى مستوى الحاجات التي يتطلبها البحث العلمي في الأرقام. لا تزال موازنات البحث العلمي في لبنان أقل من 0,5 في المئة من الدخل القومي، أي أقل من 10/1 من ميزانية البحث العلمي في إسرائيل».
البحث العلمي يحتاج إلى دعم القطاع الخاص إلى جانب إنفاق الدولة، كما يجزم د. أحمد عويني من المديرية العامة للتعليم العالي، فالإنفاق على البحث العلمي في معظم الدول العربية لا يتجاوز 0,3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما عدا تونس والمغرب التي يصل فيها الإنفاق إلى أعلى من 0,7 في المئة.
وبينما يعتمد البحث العلمي العربي على 97 في المئة من تمويله على الحكومة، لا يتجاوز التمويل الحكومي، بحسب عويني، 40 في المئة في كندا و30 في المئة في أميركا وأقل من 20 في المئة في اليابان.
وحدها قطر والسعودية وتونس وعمان نجحت في الحصول على تمويل القطاع الخاص الذي تراوح مساهمته بين 3 و3,5 بالمئة.