دعت وزارة البيئة متخصصين، اليوم، لمناقشة مسودة الاستراتيجية الوطنية للادارة المتكاملة للنفايات الصلبة. الخطوة مهمة، رغم أنها تأتي متأخرة نحو نصف قرن، بقدر ما تبدو مربكة، على أمل ألا تكون مجرد «رفع عتب» لإسكات الانتقادات. وينبع الارتباك، أساساً، من أن وزير البيئة فادي جريصاتي رفع الى مجلس الوزراء «خارطة طريق» مستنداً اليها، وهي لا تزال «مسوّدة»، تحتاج الى كثير من النقاش، بدليل دعوة اليوم.تتألف المسوّدة من 59 صفحة، هي كناية عن ترجمة غير دقيقة لتقرير خبير أجنبي طُلب منه - على عجل - إعداد «استراتيجية»، لا تزال تحتاج الى كثير من التوضيحات ومراجعة المفاهيم والمنهجية وتسلسل الافكار والخلاصات... لكي تستحق أن تُسمّى «استراتيجية».
بعيداً من أخطاء الإملاء والترجمة والصياغة والتناقضات في المفاهيم، تقول مقدمة المسوّدة إنها «استراتيجية للادارة المتكاملة للنفايات». لكنها، عند التعريف، تستثني بعض انواع النفايات. إذ لا تشمل، مثلاً، النفايات المشعّة والانبعاثات الغازية ومياه الصرف الصحي… من دون أن تبرر هذا الاستثناء، ولماذا تخصيصها للنفايات الصلبة فقط! فيما لا تقلّ النفايات السائلة خطورة في بلد مثل لبنان، لا تزال أكثر من 80% من نفاياته السائلة (المنزلية وغير المنزلية) من دون معالجة!

تخلّص ام معالجة؟
الارباك يحيط أيضاً بما اذا كانت هذه الاستراتيجية ترجمة لقانون النفايات الذي حمل الرقم 80 وأُقر العام 2018، أم أنها وُضعت لتوجه القوانين والاجراءات التي تأتي بعدها لمدة عشر سنوات على الاقل. اما في ما يتعلق بالرؤيا والمهمة والمبادئ التي يفترض أن تحكم هذه الاستراتيجية، فيبدو واضحاً أن المترجمين والمراجعين لا يعرفون الفوارق بين المفاهيم، ويخلطون بينها.
وتبلغ المسوّدة ذروة الضياع عندما تعتبر أن «الهدف الرئيسي» للاستراتيجية هو «تعزيز التزام لبنان بتخفيف الآثار البيئية المرتبطة بأنشطة ادارة النفايات وتشجيع تقديم أفضل الممارسات لخدمة التخلص من النفايات». إذ يبدو وكأن هذا الهدف وضع من أجل جهات غير لبنانية مانحة او مستثمرة (عندما تتحدث عن «التزام» لبنان)، او من أجل مستثمر معيّن (عندما تتحدث عن «أفضل الممارسات لخدمة التخلص من النفايات»).
كما أنه ليس مفهوماً سبب الإصرار على استخدام تعبير «التخلص» من النفايات بدل «المعالجة»، خلافاً للأدبيات البيئية الأساسية! إذ أن فكرة «التخلص» توحي بالعشوائية التي كانت عنوان المرحلة السابقة التي سادها منطق «الخطط الطارئة». أما الفضيحة الأكبر فتكمن في المبادئ التي تستند اليها المسودة. اذ لم يستفد من أعدّها او ترجمها من كل الملاحظات السابقة، خصوصا الورشة التي نظمها برنامج الامم المتحدة للبيئة في مجلس النواب في 12/4/2017 وخصصت لمناقشة المبادئ الاستراتيجية لادارة النفايات! وهي تتجاهل مبادئ اساسية يفترض على اساسها تحديد الاولويات وتقييم الخيارات والتقنيات وتوزيع المسؤوليات.

الوقاية من ماذا؟
صحيح أن المسودة تعطي «مبدأ العمل الوقائي والتخفيف (استخدمت كلمة «منع» لسوء الترجمة) من إنتاج النفايات الصلبة» الأولوية الأساسية بهدف تقليل الآثار السلبية لهذه النفايات على البيئة... الا انها لا تحدد كيف يفترض ترجمة «مبدأ التخفيف» (يمكن ان يطلق عليه أيضا مبدأ «الحذر والتجنب»)، كما لا تنص على مبادئ اخرى اساسية، مثل مبدأ «المسؤوليات البيئية» وتوزّعها وتدرّجها بين المنتج والمصنّع والمسوّق والتاجر والمستهلك، كل بحسب مساهمته في انتاح النفايات، ومبدأ «حق المعرفة» عبر تشريعات وقوانين تضمن حق المواطن - المستهلك بالوصول الى المعلومات ومعرفة الكلفة الحقيقية للمنتج ومكوّناته، ناهيك عن مبادئ تشدد على «تعديل الأسعار لتعكس الكلفة الحقيقية لإنتاج السلع»، بما فيها تكاليف الاستخراج ومدى ندرة الموارد وتأثيرات الاستخراج والتصنيع والنقل والتسويق والاستهلاك على الهواء والماء والتربة وعلى تغير المناخ وتكاليف معالجتها بعد ان تتحول الى نفايات والكلفة المترتبة على الأجيال الآتية في حال لم تكن المعالجة نهائية. إذ لم يعد مقبولا تقليل سعر اي سلعة، لدواعي المنافسة والربح، في وقت دُمرت أثناء انتاجها موارد اولية كثيرة، وتسببت عمليات الإنتاج بتلويث المياه الجوفية والتربة او مياه البحر، والإضرار بصحة العامل... وأحدث تحولها الى نفايات انبعاثات بالهواء تضر بالصحة العامة وبالمناخ المحلي والعالمي وتسربات تضر بالتربة والمياه الجوفية، لأن ما نوفره في سعر السلعة، قد ندفعه مستقبلا في معالجة الأمراض الناجمة عن التلوث الذي تسبّبه.

أين الضريبة؟
يلعب النظام الضرائبي لدينا دورا سلبيا جدا ضد فكرة الاستدامة. فهو يشجع الاستهلاك ويراكم النفايات ولا يأخذ في الاعتبار ديمومة الموارد وكلفة معالجة النفايات. وفي هذا السياق، لم تقترح الاستراتيجية اعتماد مبدأ «الضريبة البيئية». إذ أن رفع الضريبة على المنتجات لتعكس الكلفة الحقيقية للإنتاج، وعلى السلع التي تتحول الى نفايات ذات كلفة معالجة مرتفعة، وعلى المخصّبات الصناعية والمبيدات الكيميائية والوقود الاحفوري... يشجع على استخدام السلع الاكثر استدامة ويخفف من انتاج النفايات، ويوفّر الدعم للزراعة العضوية ولاستخدامات الطاقة المتجددة اللامركزية التي يستفيد منها الافراد وليس الشركات الكبرى فقط، إضافة الى تشجيع رياضة المشي او ركوب الدراجات او وسائل النقل العامة... الخ.

الاسترداد والتأجير بدل البيع
يفترض باستراتيجية النفايات تطبيق مبدأ «دعم الإنتاج الأقرب الى الدورة الطبيعية». وعليها، بالتالي، ان تصحح الخطأ التاريخي المتمثل بالتعارض بين دورة الطبيعة والحياة الدائرية والنمط الاقتصادي الصناعي الانتاجي الخطي. كما تجاهلت المسودة تطبيق مبدأ الاسترداد او «الاستئجار بدل التملك» الذي يفترض أن يطبق بآليات قانونية على الكثير من السلع الالكترونية الكثيفة الاستعمال، والتي بات تصنيعها وتطويرها يتغير باستمرار فتتحول، بسرعة، الى نفايات مثل الهواتف الذكية والكمبيوترات، وحتى تلك التي كان يتم تصنيفها عالميا كمواد معمرة مثل السيارات وأجهزة التلفزيون والراديو وكاميرات التصوير والفيديو والثلاجات والغسالات... هذه الادوات، يفترض ان لا يتم تملكها، بل استئجارها ضمن عقود معينة بين الوكيل والشاري. وهكذا يفترض ان تعود إلزامياً الى مصنّعها الأصلي. تطبيق هذه المنظومة الدائرية (تصنيع واستخدام وإعادة الى المصنّع) يلزم الشركات بالتصميم على أساس إعادة التفكيك والتصنيع لاحقاً.

التمويل وتوزيع المسؤوليات
تقترح المسودة اطاراً معقولاً لتوزيع المسؤوليات، لا سيما في ما يتعلق بتعزيز صلاحية وزارة البيئة، لكنه يحتاج الى بعض النقاش في التفاصيل مع المعنيين في وزارات على تماس مع هذه الصلاحية، مثل وزارات الداخلية والمال والصناعة والاقتصاد والعدل والصحة والزراعة والطاقة، اضافة الى البلديات واتحادات البلديات. كما أنها شهدت تطوراً في ما يتعلق بطرق التمويل. فلم تعد تقتصر على عنوان «استرداد كلفة المعالجة»، كما كانت مطروحة في القانون، بل تطور الاطار الاستراتيجي المقترح في المسودة ليطال الضرائب على التخلص بالطمر والحرق للتشجيع على التدوير. وكذلك الأمر بالنسبة الى اقتراح الضريبة على المنتج وعلى المواد المراد تخفيفها والرسوم المباشرة وغير المباشرة على الجهات المنتجة للنفايات، بالاضافة الى انظمة الايداع والاستعادة وتوسيع نطاق مسؤولية المنتج. ولا تخلو المسودة، للمرة الاولى في تاريخ وزارة البيئة، من جداول متقدمة حول التدابير اللازمة لتنفيذ الاستراتيجية وحول الاهداف وكيفية تقييمها، مميزة بين الغايات والاهداف ومحددة المراحل التنفيذية.