الدولة الحريصة على «تحسين» السوق و«تنظيمه»، يغيب عنها أنه لا يضمّ فقراء وحسب، بل فئات همّشتها وتغاضت عن حمايتها وتأمين حقوقها والتكفّل بتقاعدها.عبد الرحمن توفيق مزقزق، من طرابلس، عازف عمل في الإذاعة اللبنانية سابقاً، وفي الإذاعة السورية، ومع «مطربين كبار» كما يروي. يستأجر في سوق الأحد، منذ 18 سنة، بسطة يعرض فيها آلات موسيقيّة للبيع بعدما كان يعيش من العزف عليها. «عود، طبل، دربكة، غيتار»... يعدد الآلات المعروضة مشيراً إلى أفضلها نوعيّة.
رغم سنواته التي تفوق السبعين، يستقبل زوار بسطته بابتسامة عريضة وقامة طويلة ممشوقة. يضحك ليزيد من إشعاع عينيه الزرقاوين والحماسة التي تعكسانها. إن استلطف زائرة، يستلّ الدفّ ويشرع في العزف. يضرب عليه محزّراً الزائر عن الأغنيّة. «عالضيعة» للأسطورة صباح... «كنت ضمن الفرقة التي عزفتها». الرجل ترك العزف على المسارح «لأن لازم كون شاب ولابس حلو حتى يصفقلي الجمهور». لكنه لا يزال يقوم ببعض التسجيلات في استوديوات صغيرة. يشير إلى صورة له علّقها على جدار البسطة، «هيك كنت!»، يحنّ إلى «أيام شبابي». يدوزن الآلة إذا أراد الزبائن، و«بعضهم يأتي من ألمانيا». يعتذر عن عدم تلبية طلب العزف على الطبلة، «يداي ما بقا تساعدني»، قبل أن يستجيب تحت الإلحاح.
من المسجّلة القديمة المفقود «موديلها» في السوق، يصدح صوت ميادة الحناوي. عبد الرحمن «ذوّيق طرب». «هون الفنان ما إلو قيمة... مش هيك؟»، يسأل ضاحكاً.
عنده زائر يكبره سنّاً. الملحّن جورج عبدو، زميله السابق في الإذاعة اللبنانية. عبدو لا يزال يقدّم برنامجاً في الإذاعة، ويأسف على «وضع الفن الذي هو رقيّ الأمم». يعدّد الزائر ألحاناً منحها لفنانين أمثال وديع الصافي، وعبده ياغي، وسمير يزبك، وفوزي سري الدين، ونجاح سلام... وسواهم. يتمازح الصديقان، يقول عبدو: «لم يكن عبد الرحمن يعزف الأغاني التي ألحّنها... لأنّها صعبة!». الأصعب بالنسبة إلى الصديقين خسارة ملتقاهما الوحيد «سوق الأحد»، في مدينة تهمّش فقراءها وكبار السنّ فيها.