في وقت توقف النقاش في اللجنة الوزارية المخصصة لدرس ملف النفايات عند حدود صعوبات وإشكاليات اختيار مواقع المعالجة (لاسيما مواقع للمطامر او المحارق)، تقدم وزير البيئة فادي جريصاتي بخارطة طريق متقدمة عرضها، أمس، في حوار مع بلديات واتحادات بلديات. وهي - رغم نواقصها - تضمّنت، للمرة الأولى وبشكل جدي، مبادئ أساسية، أهمها تطبيق التخفيف عبر وضع ضريبة على المنتج. كما أنها المرة الأولى، يتفادى فيها مسؤول الوقوع في فخّ المقارنة الساذجة مع دول متقدمة، كالقول إن المحارق موجودة في الغرب والدول المتقدمة، فلماذا نخاف منها؟قبيل اتخاذ اول قرار حكومي باعتماد المحارق عام 2010، زار وفد رسمي أمستردام للاطلاع على «التجربة الهولندية». الا أن احداً ممن روّجوا منذذاك لهذا الخيار، لم يذكر أن هذا البلد كان يتبع سياسات تخفيفية ايضاً، ويضع هدفاً استراتيجياً لتقليل كميات النفايات التي تذهب الى المحارق الى النصف خلال سنوات قليلة، عبر تحميل الشركات المنتجة مسؤولية استعادة فضلات التعليب والتغليف والتخلص من المنتجات المستعملة، حتى باتت هذه الكلفة ضمن سعر المنتجات الجديدة، أي أن المستهلك يدفع كلفة التخلص من السلعة القديمة حين يشتري الجديدة. وقد أدى ذلك الى خفض حجم النفايات بشكل كبير.
أما «التجربة الدنماركية» فتشير الى أن هذا البلد الذي كان من أولى الدول اعتمادًا على المحارق بنسبة تصل إلى 80% من النفايات، اذ كان الفرز من المصدر في المنازل أمرًا اختيارياً، قد بدأ منذ عام 2013 تطبيق قانون يجبر المواطنين على فرز نفاياتهم لتقليل الكميات التي تذهب الى الحرق الى الحدود الدنيا.
السلطات المحلية السويسرية تطبق، أيضاً، سلسلة من الاجراءات التي قد تبدو، للوهلة الأولى، صارمة ومتشددة. إلا أن التجربة اثبتت التزام المواطنين بها حتى باتت جزءاً من روتينهم اليومي. فإن كنت تقيم في سويسرا، وأردت أن تترك للبلدية عملية جمع النفايات من أمام بيتك، عليك أن تدفع رسومًا لذلك. أما إذا تولّيت التخلص من نفاياتك بنفسك عبر نقلها إلى صناديق إعادة التدوير فلا يترتب عليك اي نصيب من كلفة جمع النفايات، وهو إجراء أكثر عدالة من فرض ضريبة «على المساحة» كما هو مقترح في لبنان. في سويسرا، ايضاً، حاويات خاصة وأكياس بألوان مختلفة مخصصة لكل نوع من أنواع النفايات، ويجري تغريم من لا يلتزم بهذا الفرز، كما يُمنع، على سبيل المثال، رمي البطاريات المستعملة ضمن نفايات أخرى، بل تخصص لها مستوعبات معيّنة. ويمكن تطوير هذه الفكرة على كل النفايات المنزلية الخطرة (الالكترونيات والادوات الكهربائية والادوية وغيرها) التي يفترض تجميعها على أن يستردها المستورد، ليعيدها بدوره الى المنتج. كل ذلك يجري تحت «سيف التغريم» الذي لا بد منه لضمان الالتزام بالفرز من المصدر، وهو ما لم يرد بعد في المقترحات التي عرضها وزير البيئة أمس.
وفي كندا، تتحمّل الشركات المنتجة للالكترونيات مسؤولية استعادة المنتجات المستعملة والتخلّص منها، وهي فكرة قابلة للتطوير نحو استئجار الالكترونيات، لا سيما تلك التي تتطور وتتغير تصاميمها بسرعة كالهواتف النقالة مثلاً.
كما وضع الاتحاد الأوروبي هدفاً واضحاً للوصول إلى هدف إعادة تدوير نحو 50% من حجم النفايات بحلول عام 2020، بالمقارنة مع 35% عام 2010 و23% عام 2001. وقد نجحت دول أوروبية عدة في الوصول إلى هذا الهدف قبل الاوان.
كل هذه الامثلة (وغيرها الكثير) من بلدان «متقدمة» تورطت عبر تاريخها، كبلدان رائدة في التصنيع، في إنتاج الكثير من النفايات واعادة التصنيع وتطوير تقنيات للطمر والحرق وتوليد الطاقة. وعندما كانت تعجز عن ايجاد مزيد من المواد الاولية او عن ايجاد أماكن لمعالجة النفايات الخطرة والسامة، كانت تلجأ - بالسر والعلن - الى بلدان اقل تقدما للحصول على المواد الاولية او لنقل الصناعات الملوثة او لدفن المخلفات الخطرة فيها.
كثر من المتشدقين والمنبهرين بالتقدم الغربي لا تعنيهم هذه التجارب، كما لا يعنيهم أن هذه الدول باتت تضع مبدأ التخفيف في اعلى سلم المعالجة. وهو المبدأ الذي من الأَولى أن تلجأ اليه البلدان المسماة نامية وتترجمه في قوانين وخطط، لانه يحميها من الاستغلال ومن استنزاف أموالها لاقتناء تقنيات (كالمحارق مثلاً)، بدأت الدول المنتجة لها تضع برامج واستراتيجيات للتخلص منها او تخفيف استخدامها الى الحدّ الأدنى.
فهل ينتقل النقاش في اللجنة الوزارية المعنية او بين الوزارات المعنية والبلديات الى هذه المعطيات التخفيفية، والخروج من دوامة ايجاد اماكن للمطامر والمحارق والتقنيات التي تزيد من ثروات البعض، وترهق أموال البلديات والخزينة وجيوب الناس... وتزيد من «لا ثقة» المواطنين بأي حل وخيار؟