قبل أيام، أصدرت «حركة مناهضة العنصرية» بياناً تحدثت فيه عن احتجاز الأمن العام عائلة سودانية - سريلانكية لعدم حيازة أفرادها أوراق إقامة. في ختام البيان، الذي دعت الحركة إلى مشاركته على «أوسع نطاق»، ترد المعلومة الأهم: «قام الأمن العام بتبليغ أفراد العائلة بأنّه سيتمّ ترحيلهم إلى السودان وسريلانكا».هنا، ينتهي البيان. لكن أحداً لا يعرف كيف ستنتهي مأساة عائلة مؤلفة من سبعة أفراد، بدأت قبل ستة أشهر، بعدما قرّر الأمن العام ترحيلها على قاعدة ما تنصّ عليه القوانين بأن الأجنبي الذي لا يملك أوراق إقامة شرعية تنبغي إعادته إلى بلاده. بحسب مصادر الأمن العام، قرار الترحيل «طبيعي لأن هناك مخالفة لنظام الإقامة في لبنان». لكن، القانون ليس على درجة من القداسة التي تلغي جوانب أخرى التزم بها لبنان في إطار حماية حرية الأشخاص في حق تقرير المصير، وليس أقلها توقيعه العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن استثنائية هذه الحالة، إذ سيتسبب قرار الترحيل بتشتيت العائلة بين «منفيين».
قبل «حكم» الترحيل، عاشت العائلة عشرين عاماً حياة «مستورة». الوالد طه سالم (سوداني) عمل «عتّالاً»، فيما عملت الأم، دفيكا (سريلانكية)، في الخدمة المنزلية. من مردود «مهنتيهما»، أسس طه ودفيكا عائلتهما المكونة من خمسة أفراد: بكرهما يوسف (أتم عامه الثامن عشر في سجن الأمن العام)، وثلاثة ذكور آخرين (16 و13 و11 عاماً)، وبيروت (أتمت عامها الخامس في ملجأ «كاريتاس»).
كان ثمة ما ينقص العائلة لتكون حياتها طبيعية: أوراق الإقامة. طوال سنواتٍ كثيرة، حاول طه ودفيكا تحصيل تلك الأوراق. كان ملف العائلة يكبر كلما ولد طفل لهما. لم يتركا مكاناً إلا ولجآ اليه لتسوية الأوضاع أو الحصول على لجوء إلى بلد أوروبي. أودعا الملف لدى جهات كثيرة، منها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، في محاولة لتسجيل طلب لجوء، لكنهما «لم يحصلا عليه، ولم يكن هناك تعاون من جانب الأمم، فأقفل الملف»، تقول ميرا دينه، المنسقة القانونية في مركز العاملات الأجنبيات التابع لـ«حركة مناهضة العنصرية».
هرب طه من السودان، بلا أوراق، بعد مقتل شقيقه في الحرب الأهلية هناك. أما دفيكا، ففقدت إقامتها النظامية في لبنان بعدما هربت من منزل كفيلها. وبعد زواجها، لم تعد قادرة على تسوية أوضاعها حتى مع عائلتها لأنها تزوّجت من مسلم. هكذا، عاش الأولاد الخمسة بوثيقة ولادة من المختار، وسُجّلوا في المدارس لأن «وزارة التربية عممت على مدارسها بعدم رفض تسجيل أي طفل في المدرسة لأي سبب كان». هكذا، سارت حياة العائلة على «إجر ونص»، الى ما قبل ستة شهر (منتصف شباط الماضي)، عندما تعرّض يوسف لحادث سير مع أصدقائه أمام «مخفر بيضون» في الأشرفية. يومها، انقلبت حياة العائلة رأساً على عقب. عندما أوقف الشبان، لم يكن لدى يوسف ما يمكن أن يعرّف عنه، فسُلّم إلى الأمن العام لتُفتح رحلة التدقيق في أوراق العائلة.
بعد ستة أشهر من الاحتجاز الإداري، طُلب من طه ودفيكا الحضور لتسوية ملف ابنهما. ولما لم تلتزم العائلة خوفاً مما قد يحصل، دهمت قوة من الأمن العام، ليل الثالث من تموز الماضي، منزلها في الأوزاعي واعتقلت الأب وزوجته وابنتهما بيروت، وفي اليوم التالي احتجزت أبناءهما الثلاثة. بعد الاعتقال، قسّمت العائلة: بقي في حجز الأمن العام يوسف وأبوه واثنان من أشقائه، فيما حوّلت الأم وابنتها بيروت وابنها الأصغر (11 عاماً) إلى ملجأ كاريتاس.
الأب معتقل مع أبنائه الثلاثة في سجن الأمن العام والأم مع طفلين في ملجأ «كاريتاس»


أمس، دخلت العائلة شهرها الثالث في الاحتجاز. تتحدث ميرا دينه عن ظروف الاحتجاز «وفق ما نقلته دفيكا التي قالت إن ما يتم توفيره من احتياجات (مأكل ومشرب) ليس كافياً، كما أن طفليها لا يزالان في الثياب نفسها منذ أتوا إلى الملجأ، والأمر نفسه ينطبق على الأب وأبنائه الثلاثة». أما ما هو آتٍ فهو الأصعب: قرار الترحيل، إذ قرر الأمن العام «ترحيل الأب إلى السودان والأم إلى سريلانكا»، بحسب حركة مناهضة العنصرية. وفي هذا الإطار، «أخبر الأب الحركة بأنه تعرض لضغوط للتوقيع على استمارة تشير إلى أنه وافق على إعادته إلى السودان، فيما قالت الأم إنها أُبلغت بأنها ستُرحّل إلى سريلانكا». أما الأطفال الخمسة، فـ«لم يحسم القرار بعد، وإن كانت الأم قد تبلّغت بأنهم سيذهبون مع والدهم إلى السودان»، علماً بأن دون العودة الى ذلك البلد مخاطر تتعلق بوضع الأب كونه «معتقلاً سابقاً أطلق سراحه برشوة»، ما يعني أن وضعه القانوني هناك ليس سليماً. كما أنه يصعب دخول أبنائه إلى السودان الذي «لا يقبل بإدخالهم بجواز مرور». أما الأم، «فعودتها محفوفة بالخطر، إذ تخشى انتقام عائلتها بسبب اعتناقها الإسلام وزواجها من مسلم، بحسب ما أخبرت الحركة»، لافتة الى «الأحداث العنيفة ضد المسلمين في مسقط رأسها كاندي».
خمسة أطفالٍ مهددون بالترحيل إلى بلدين محفوفين بالمخاطر. لا احتمالات كثيرة هنا. ففي ظل قرارٍ «نافذ»، «ثمة سيناريو واحد وهو تشتت العائلة». والسؤال: إذ رُحّل الأب والأم كل إلى بلده، ماذا سيكون مصير أطفالهما الخمسة؟
كان يمكن البحث عن بدائل. هذا ما يقوله القانون والاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها لبنان. يمكن الحديث هنا عن اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها لبنان عام 1991، وتنص على أن «أي حرمان من الحرية على أساس وضع هجرة الطفل محظور بموجب القانون وإلغاءه مكفول في السياسة والممارسة العملية». أكثر من ذلك، ووفقاً لحقّ مبدأ وحدة الأسرة، ينبغي على السلطات «ألا تفصل الأطفال عن ذويهم ما لم يكن الانفصال في مصلحة كل طفل بشكل واضح. وإذا كانت القيود المفروضة على حرية الأهل أو حريتهم في التنقل ضرورية في قضايا الهجرة، ينبغي توفير بدائل للاحتجاز لجميع أفراد الأسرة لاحترام حقوق الأطفال في عدم الاحتجاز وعدم فصلهم عن أهلهم». فما هو موقف لبنان من التزاماته هذه؟